الأحد، 15 يونيو 2014

استدلال القرآن على التوحيد بالحياة

الربيع والانبعاث:

إن موضوع الحياة والموت من المواضيع التي ما برحت تدفع الناس إلى التفكير والتأمل. والقرآن يتناول هذا الموضوع على أنه آية من آيات الله العظيمة، وتَرِدُ هذه السُّنة الجارية في بعض الآيات على أنها آية من الذات المقدسة، كما في الآية 164 من "سورة البقرة"1، وترد في آيات أخرى على أنها مثال لاستبدال نشء بنشء جديد، أو على أنها انبعاث صغير يمكن أن يمثّل البعث الأكبر، يوم القيامة، كما جاء في سورة فاطر، حيث يقول: ﴿وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ2.


أو كما جاء في سورة "ق"، حيث يقول:
﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ3 وفي بعض الآيات إشارة إلى حالتي الموت والحياة، كما في سورة الحج: ﴿... وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ4، وفي عدد من آيات أخرى.




233


يُعنى القرآن كثيراً بأنْ يصِف الله بالمحيي والمميت، وبأنْ يجعل الإحياء صفةً يختصُّ بها الله تعالى، وهناك الكثير من الآيات القرآنية بهذا الشَّأن لا موجبَ لذكرها، وإنما قصْدنا هو التعرُّف إلى المنطق القرآني.

فالذي يلفت النَّظر هو في ما ما نزل من آيات عن التوحيد وعن القدرة الإلهية الأزلية هو حديثها عن سنَّة الإحياء والإماتة التي نراها، فما يراه الناس من هذه السّنة فإنما يعبّر عن مظهر من مظاهر ملكوت الله.

وعلى الرَّغم من أن كثيراً من المسائل التي تتعلَّق بالحياة والموت ما زال مجهولاً وسراً من الأسرار عند البشر الذين نفذوا إلى قلب الذرّة، وجابوا الفضاء، ولعلّهم سوف يسخِّرون قريباً النجوم والكواكب والشمس (إذ قد يأتي وقت يسخّرها الإنسان عن قرب كما يسخّر الأرض الآن)، هؤلاء البشر أنفسهم يقفون حائرين أمام الأسرار المعقدة الغامضة في ذرة واحدة!!

يقول أحد العلماء: أتعلمون ما هو أهم وأعلى من خلق الأرض والسيارات، بل وحتى من الكون برمته؟ إنه هذه الذرَّة الصغيرة التي هي مادة الحياة، هي (البروتوبلازم) أو جرثومة الحياة. ثم يأخذ بشرح عجائب أعمال هذه الذرة المجهرية وفاعلياتها، ففي الوقت الذي ما يزال كثير من المسائل المرتبطة بالحياة أسراراً لم تُحلَّ، فإنَّ هذه الذرة تشكّل درساً بسيطاً ومفيداً لنا لنعتبر به.

الحياةُ حقيقةٌ أرفع من المادّة:

إنَّ المقدار الذي نستطيع أن نفهمه هو أنَّ الحياة نور يسطع من أفقٍ أعلى وأرفع على المادّة المظلمة. فالمادّة بذاتها ميّتة لا حياة فيها، ولكنها في ظروف معينة تكون على استعداد لتقبُّل ضوء أفقٍ أعلى وأرفع من أفُق المادّة وخواصّها، وأن تكون تحت تصرُّف قوانينه الخاصة وتأثيراته، لتصبح أمامه مغلوبة على أمرها.

وأما الذين يحصرون أفكارهم بالمادّة ويحدّدونها بالجسم، فإنَّهم سوف يجدون في هذا دليلاً واضحاً على وجودِ أفقٍ أعلى وأرفع تتجلَّى مظاهره على هذه المادَّة التي لا روح

234

فيها، ثم تُسترجع هذه المظاهر منها، فهذا الأفق الأعلى يبسط ويقبض، يحيي ويميت!

ولكن من زاوية التوحيد ومعرفة الله، فالمادّة والحياة لا يختلفان من حيث كونهما كلاهما من مخلوقات الله، ومن صُنع يده، ودلائلَ على ذاته، ولكن من زاوية الذين اقتصروا وحدَّدوا أنفسهم بحيث لا يتعدَّى شُعاع نظرهم إلى ما وراء جدار المادَّة وخصائصها، عليهم أنْ يدركوا أنَّ الوجود لا ينحصرُ بالجسم وخواصه، وأنَّ هناك أفقاً أعلى من الأجسام وأرفع، وأنَّ تأثيره يبلغ الأجسام نفسها.

إنَّ عالم الوجود لا ينحصر بقشر هذا الجسم، بل هناك عوالم في بطن هذا العالم، وتحيط به، وما ظهورُ الحياة إلَّا مظهرٌ من مظاهر تلك العوالم حتَّى أنَّ المادّة، إذا واتتها ظروفٌ تصقلها، فإنَّها تعكس نورَ تلك العوالم، وهي تلكَ الموادُ التي لها القابليَّة على الحياة. 

إنَّكم لتشاهدون في جسم المادّة الميّت ضوءَ الحياة، وترون في جوهر المادّة السيَّال والمتحرّك الذي يموت ويعود إلى الحياة خيطاً ثابتاً من الحياة. 

هناك -إذاً- شيءٌ ميِّتٌ في ذاته، وشيءٌ حيٌّ في ذاته، وشيءٌ متغيِّرٌ وغير ثابت في ذاته. وشيءٌ باقٍ وثابتٌ في ذاته، وشيء لا هيئة ولا صورة له في ذاته، وشيء هو ذاته هيئة وصورة فعلاً:
(المخلوقات ككأس من الماء الصافي الزلال
                                تسطع فـيـهـا صـفـات ذي الجـلال)



هل الحياة من خصائص المادّة؟

قد يتصور بعضهم أنَّ الحياة جزءٌ من خصائص المادّة وأنَّها ليست إضافةً مكملةً للمادَّة.

إنَّ الجواب على هذا الموضوع يتطلَّبُ بحثاً علمياً عميقاً، إلَّا أنَّه من الممكن القول بإيجاز: إن المقدار الذي نستطيع أن ندركه هو أنَّ أيَّ عنصرٍ ماديّ لا حياة له بمفرده، وليست له صفة الحياة، وأنَّه إذا ما أضيف عنصرٌ إلى عنصرٍ أو أكثر، فأكثر ما يحصل

235

 هو أنَّ كلّ عنصرٍ يعطي بعض ما عنده إلى العنصر الآخر ولكنه لا يستطيع أن يعطي ما ليس عنده للآخرين. وعليه فإنّ أكثر ما ينتجه الفاعل بين العناصر هو أنَّ المجموع يتّسم بخصائص عامّةٍ مشتركةٍ لا تخرج عن خصائص كلّ عنصر، وتتولَّدُ حالة وسطية.

ولذلك وجد العلماء، وعلى الأخص العلماء المحْدثين، في أبحاثهم أنَّ الحياة بخصائصها العجيبة لا تحمل أيَّ وجه شبه بخصائص المادّة مطلقاً.

يقول أحد العلماء المحدثين: "إنَّ المادّة لا تؤدي عملاً إلَّا وفق ما ركِّب فيها من قانون ونظام. وليس لها قوة ابتكار، ولكن الحياة لها قوّة ابتكار، إذ إنَّها في كلّ لحظةٍ تكشفُ عن أشياءَ جديدةٍ وموجودات بديعة".

فالحياة هي الحاكمة على المادّة وقاهرة لها، وليست محكومة أو تابعة لخصائص المادّة.

يقول العالم المذكور أيضاً: "إنَّ الحياة في صورها العديدة، وفي الخليّة الواحدة، حتى في الحشرات، والأسماك، والثديات، والطيور، والإنسان، وبأيِّ صورة أخرى، فإنَّها تهيمن على عناصر الطبيعة، وتخرجها من تركيبها الأصلي لتحوّلها إلى تراكيب جديدة".

يؤكد علماء اليوم، عموماً، أنَّه إذا كان جوهر الحياة من حيث القالب تابعاً لظروف المادّة، إلّا إنه من جهات عديدة أخرى يسيطر على المادّة ويحكمها فهو ليس تابعاً كلياً للمادة، ولا أية خاصية من خواصها. إن للحياة تجلياتها الخاصة التي تفتقر إليها المادّة مطلقاً. فما أن تبدأ الحياة بالظهور حتَّى تظهر تحرّكات وتطوّرات لم تكن موجودةً من قبل، فتظهر الخطط، ويظهر التنظيم الهندسي، وتظهر مظاهر الجمال، ويظهر الشعور والإدراك، ويظهر الشوق والرغبة والعشق والتدبير والتخطيط، وتظهر أشياء ما كانت موجودة في المادّة الميتة، إنَّ العالم كلّه مرآة جمال الباري وكماله، وحتّى تلك المادّة التي لا روح فيها، مجرد وجودها مرآة تعكس قدرة الحق الأبدية.

العـوالــم مــرآة لـنـا تـطــالـعـنـا فـشـاهـدوا وجـهـه فـي كـل مـرآة وبقدر ما تكون الحياة أكمل من المادّة، فإن شهادتها وحكايتها عن الخالق العليم الحكيم، تكون أظهر وأبلغ.

236

نظام الوجود وسنّته:

إنَّ النقطة التي أريد تكرار ذكرها، هي أن القرآن أيضاً يستدلّ بهذا النظام الثابت الجاري على الحياة والممات ويستشهد به. وهو لا يترك هذه السنّة الثابتة الجارية جانباً ليستشهد بحوادث غريبة نادرة الوقوع، بل إنَّ هذا النظام الثابت؛ الموعد السنوي لبعث الحياة في الأرض، النظام الثابت لظهور الجنين في النطفة وتكامله، كل هذا المشهد خلقٌ جديد يحدث في كل لحظة، وكل هذه إفاضات تصل من الغيب آناً فآناً، فما حاجتنا للذهاب بعيداً؟ بل علينا أن نتفكّر في كنه هذا الخلق، ونتعمَّق فيه حتى نرى الله في مظاهره الخلاقة الدائمة، وإيجاده للاكتمال الدائم.

يقول تعالى في "سورة المؤمنون": 
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ5.
وعليه، فالقرآن نفسه يستشهد بهذا النظام الثابت السائر، هذا النّظام المألوف الطبيعي، إنّه نظام الخلق والإيجاد والتكوين، نظامٌ لو تعمَّقنا فيه لأوصلنا إلى أفقٍ من المعرفة أرفع من أفق المادّة. فالقرآن يتخذ من معارف الإنسان الثابتة واسطة لتعريفه بالله، وهي معلومات إيجابية، لا سلبية. وهذا ما ينبغي توضيحه حتى تتبين أهمية تعليمات القرآن بهذا الشأن بشكلٍ كامل.

البحث عن الله في المعلومات:


اعتاد بعض الناس على البحث عن الله في مجهولاته الشَّخصية، أي: إنَّه كلّما صادف لغزاً لم يستطع حلّه أرجعه إلى ما وراء الطبيعة.

إذا سألت أحدهم: كيف حصل هذا الخبز الذي تأكله؟ لقال:
- كان دقيقاً عجنه الخباز في التنور.

237

- كيف أصبح دقيقاً؟ كان حنطة فطحنوها في الطاحونة.
- وكيف وجدت الحنطة؟ زرعها الفلاح، فنبتت، فنمت، فحصدها فدرسها.
- وكيف نبتت؟ نزل المطر، وأشرقت الشمس، فاخضرت.
- كيف نزل المطر؟ هذا ما جاء به الله.

فكأنَّ الله لم يكن له حضور قبل هذه المرحلة، وأنَّه تدخل في هذه المرحلة فقط.

إن هذا الضرب من تصور الله خطأ ومضلٌّ، بل كفرٌ وإلحاد. فالمرء في تصوُّر كهذا يضع الله في مستوى أحد مخلوقاته ويعتبره نداً له، فيراه علّةً من بين العلل والأسباب في هذه الدّنيا، وهو الذي فوق كل علّة وسبب، وهو منبع كلّ العلل والأسباب.
في مثل هذا التصوّر يبدو الأمر وكأنّ العمل قد قُسِّم بين الله والأسباب المادّية، قسمٌ يقوم به الله وقسمٌ يقوم به غير الله، كأنه لا يوجد لله يدٌ في الأعمال الأخرى، وأنَّه لم يتدخَّل في سائر الأمور الأخرى كما تدخل في الإتيان بالسحاب وإنزال المطر، ولم يكن سوى سبباً من الأسباب.

أما إذا قال إنّ لتحرّك السّحاب ونزول المطر سبباً مثل الأسباب الأخرى، فإنه لا يكون قد أبقى لله مكاناً!

فطالما أنه يرى أسباباً ظاهرية طبيعية لطحن الحنطة وخبزها، وبذر الحب، وحرث الأرض، ونزول المطر، فإنه لن يرى لله دخلاً في الموضوع! وعندما لا يعود يلحظ سبباً ظاهراً، طبيعياً يعرفه، يدخل الله في القضية! أي: إنَّه يأخذ بالبحث عن الله ضمن مجهولاته، كما لو كان ما وراء الطبيعة مخزناً تُصَفُّ فيه المجهولات كلّها.

إنّ الله الذي يوضع في مصاف العلل المادّية الطبيعية ليس إلّا حقيقة، والله الذي يصفه القرآن ليس على هذا النّحو!

إنّ هذا الطراز من التّفكير، في عرف توحيد القرآن، شركٌ وكفرٌ وإلحاد. إنّ الله الذي يصفه القرآن موجودٌ في كلّ مكان، حاضرٌ مع كلّ شيء لا يخلو منه مكان، ونسبته إلى كلّ الموجودات والعلل والأسباب متساوية، فجميع سلسلة العلل والأسباب قائمةٌ بذات الله.

238

إنّ هذا الطّراز من التّفكير يتّبعه الذين لا حظَّ لهم من عمق التفكير، حيث يفتشون عن الله بين المجهولات والأمور التي لا يعرفون لها علةً ظاهرة. ولكن القرآن يأخذ بيدنا ويسير بنا في طريقٍ وسط بين الحياة والموت ونظام الوجود المتقن، الطريق الذي فيه أفق الحياة أرفع من أفق المادّة، النور الذي يشع على جسد المادّة الميّتة، والكمال الذي يفيض عليها، والحقيقة التي تتقبُّلها المادّة تقبلاً دون فاعليةٍ وعطاءٍ، هنالك يقترب بنا القرآن إلى أفق الملكوت وباطن العالم.

وبموجب هذا البيان، تكون الحياة حيثما وجدت وفي أي مادّة حلّت، ووفق أي قانون أو ظرف ظهرت، سواء أظهرت منذ الخلق الأوّل، أم في ظروف التدرُّج التكاملي، وسواء أكان ظهورها في حيّ عن حي، أم أنها ظهرت تحت ظروف أخرى وسواء أكان الإنسان هو الذي هيّأ الظروف لها - فيما إذا استطاع البشر في يوم ما أن يحقّق ذلك- أم لم يكن، ففي كلِّ هذه الحالات وغيرها تكون الحياة فيضاً من نوره وعطائه. فالحياة نورٌ يفيض على المادّة ضمن توافر الظروف والاستعداد.

قضية بدء الحياة:


يحاول بعض النَّاس دائماً العثور على الله في مجهولاته، لا في معلوماته، وليس شيء أخطر من هذا المنحى في التفكير قد يتعامل به أحدٌ مع قضية التّوحيد. والبعض الآخر من غير المتثبّتين الذين لا علم لهم يحاولون، فيما يتعلّق بالحياة ومعرفة الله، البحث في مسألة بدء الحياة، ويتساءلون عن كيفية ظهور الحياة على الأرض بادئ ذي بدء. فمن جهة يقول العلم، إن منشأ كلّ شيءٍ حيٍّ، حيٌّ آخر، إذ لم يتفق لحدّ الآن أن نشأ حي، وإن يكن خلية واحدة، من مادّةٍ لا حياة فيها. 

ومن جهة أخرى يقول العلم أيضاً، إنَّه مضى على أرضنا هذه زمانٌ لم يكن فيها أيُّ شيءٍ حيّ، وما كان يمكن أن يكون كذلك، لأنَّ درجة الحرارة قبل ملايين ملايين السنين لم تكن تسمح، كما يقولون، أن يبقى كائنٌ حيٌّ حياً، ثم حتى بعد ذلك عندما برد سطح الأرض خلال ملايين السنين لم يكن هناك سوى المواد غير العضوية، فكيف ظهرت الحياة إذن؟

239

 وهذا الأمر مجهولٌ آخر يضاف إلى مجهولات الإنسان. 

وأما الذين يبحثون عن الله في مجهولاتهم، فيقولون: بما أن ذلك غير ممكن بالطرق العادية المألوفة، فإن يدَ قدرة الله قد ظهرت من كمّها فأوجدت الحياة للمرة الأولى!

داروين والنفخة الإلهية:


على الرَّغم من أنَّ داروين، العالم الإحيائي المعروف وصاحب فلسفة "النشوء والارتقاء"، كان شخصاً متديّناً يدّعي المسيحيّة، فقد أساء النّاس تفسير فلسفته، وأظهروه على أنه ينكر وجود الخالق!

عندما يسرد داروين تسلسل نشوء الأحياء يصل إلى مكان يقول فيه، إنَّه لم يكن على الأرض سوى عددٌ قليل من الأحياء، أو في الأقل نوعٌ واحدٌ من الأحياء لم يخرج من حيٍّ آخر، وهنا يقول: أمَّا هذا النّوع البدائي فقد خلقه الله بنفخةٍ من عنده.

ما من شكّ في أنّ الحياة الأولى قد ظهرت بنفخةٍ إلهيّةٍ، مثل جميع سلاسل الأحياء، إلا أنَّ الأمر ليس كما ظنَّ هذا الرَّجل في مقولته بأنَّ النّفخة الإلهيّة قد أوجدت الحيَّ الأوَّل فحسب، وأنَّ البدء كان من الله، أي: إنَّ وظيفة الله كانت الشروع بالأمر، ومن ثم أصبحت المادّة قادرةٌ بذاتها على نقل الحياة إلى الأجيال القادمة. 

في حين أنّ بدء العمل ووسطه ونهايته لا يختلف، فالحياة دائماً وفي كلِّ الأحوال- سواء في البدء أم خلال التكامل - نفخة إلهية.

وهناك آيةٌ في سورة السجدة تفيدُ بأنَّه مثلما خُلق آدم أبو البشر بنفخة إلهية، فإن جميع أفراد البشر يخلقون بالإفاضة الإلهية ذاتها التي اسمها النفخة في تفسير القرآن: 
﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ*6.

240

وفي آية أخرى من سورة الأعراف يقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ7. وهنالك أيضاً آيات أخرى في القرآن يستدل منها على أن آدم ليس هو أول من خُلق بالنفخة الإلهية.

قصَّة آدم في القرآن:


من العجيب أنَّ قصة آدم عليه السلام أبي البشر قد وردت في القرآن على أنها درسٌ آخر، لا على أنَّها دليلٌ على التوحيد، ولا لكون حياة البشرية الأولية قد بدأت هكذا، فتعالوا واعترفوا بربوبية الله!

إن القرآن الكريم يورد قصّة خلق آدم عليه السلام بصورة خاصة نعرفها جميعاً بشكلٍ من الأشكال. وإذا اعتبرنا علوم الحياة قد بلغت مرحلة متقدّمة، وإن قوانين تسلسل الأنواع صحيحة، فليس ثمة دليل يؤكّد استحالة حدوث طفرةٍ عظيمةٍ بحيث تخلَّقت حفنةٌ من التراب في مدة وجيزة وأصبحت إنساناً.

أي إنَّ المراحل التي كان ينبغي أن تُطوى في قرون طويلة، وأن تتوالد الأجيال وتدخل ضمن ظروف مساعدة فإنّه يمكن أن تتهيّأ ظروفٌ أخرى تعجِّل بالتطوُّر. وليس في هذا ما يخالف السُّنن الطبيعيَّة السَّائدة في الكون. فالسرعة تتغيَّر في الكون باختلاف الظُّروف والأحوال، كما أنَّه لا يوجد ما يمنع من تقليل تلك السُّرعة، فقد يمكن في ظروفٍ خاصَّةٍ أن نزيدَ من طول فترة الطُّفولة والشَّباب والكهولة فتراتٍ طويلةٍ.

على كلّ حال، كان القصد توضيح أسلوب القرآن حول مسألة التوحيد وأنه أثناء الحديث عن التوحيد ينبغي أن لا يُتمسَّك بموضوع بدء الحياة، ولا يقال إنَّه بما أنّ للحياة بدءاً، سواء بدأت في خليّةٍ واحدةٍ أو من كائنٍ عمرُه ملايين السّنين، فتجب لذلك معرفة الله. 

إنَّ قصّة آدم أبي البشر قد وردت بقصدٍ آخر، وقلّما نجد قصّة مثل قصّة آدم فيها هذا المغزى الكبير. فقد وردت هذه القصَّة لإعلاء شأنِ الإنسان، والإنسان إذا تعلَّم الأسماءَ الإلهيَّة يكون أعلى مرتبةً من الملائكة، بل تخضع الملائكة له وتسجد. وكذلك تحذّر هذه

241

 القصّة من عداوة الشَّيطان، وتوعّي البشر إلى ما توسوسه لهم أهواؤهم الداخلية لكيلا تنحرف بهم عن طريق الصواب.

والقصّة تكشف عن عاقبة التكّبر الذي هوى بالشيطان وأخرجه من قرب الله. وتكشف عن أخطار الطمع والسقوط التي تحيق بالإنسان فتنزله درجات بسبب تهاونه في إطاعة أوامر الله، وعن المقام الرفيع الذي يتسنَّمه الإنسان، مقام خلافة الله.

إنّ القصة مجموعة من الدروس الأخلاقية والتعليمات العرفانية:
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ8.

في هذه القصة مغازٍ أخرى كثيرة، لا مجال لشرحها هنا، خاصة الأمر المهم الذي لا يتمّ الالتفات إليه؛ وهو اعتبار خلق آدم عليه السلام دليلاً على التَّوحيد.

242


هوامش
1- ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ البقر، 164.
2- فاطر، 9
3- ق،9- 10.
4- الحج، 5- 6.
5- المؤمنون، 12-13.
6- السجدة، 7-8-9.
7- الأعراف،11.
8- البقرة، 30 - 33.



المصدر: المعرفة العقلية والقلبية