الجمعة، 14 نوفمبر 2014

المسلمات العلمية لنظرية النسبية

بسم الله الرحمن الرحيم

اليوم نكمل رحلتنا مع يحيى محمد ومجموعة مقالاته حول المسلّمات العلمية. 
يأخذنا الأستاذ يحيى في رحلة فلسفية علمية مع النظرية النسبية
فما الجديد؟
إنها المسلّمات العقلية التي تنطلق منها النظرية.

قراءة ممتعة

المسلمات العلمية لنظرية النسبية

يحيى محمد

للنسبية ثلاثة عناصر اساسية، احدها يتعلق بمسلماتها الفلسفية، والثاني بمسلماتها العلمية، اما الثالث فيتعلق بجوهر مضامينها الرئيسية. ففيما يخص مسلماتها الفلسفية هناك ثلاث مسلمات اساسية كما يبدو لنا كالتالي:
1ـ مسلمة الواقع الموضوعي مع نفي (الامكان) الذي يقابله، أو ما أُطلق عليه فيما بعد (الاحتمال).
2ـ مسلمة القوانين الحتمية الصارمة، والتي اشتهر فيها قول أينشتاين (ان الإله لا يلعب النرد).
3ـ مسلمة نفي الحركة المطلقة باطلاق. فكما سنلاحظ أنها تعني امرين فلسفي وعلمي، والجانب العلمي منها يتعلق بالتكافؤ عند الحركة المنتظمة لشيء بالنسبة لآخر ساكن.
أما مسلماتها العلمية فهي كما يلي:
1-  إفتراض الحركة النسبية.
2-  إفتراض عدم وجود سرعة أكبر من سرعة الضوء، وبالتالي من باب أولى نفي التأثير اللحظي.
3-  إفتراض الهندسة اللااقليدية للواقع الفيزيائي.
في حين ان جوهر ما تضمنته النسبية من عناصر مترابطة كمضمون ومحتوى هي تأويلاتها المتعلقة بالتغيرات الطارئة على الجسم عند السرعات الكبيرة، ونظرية الزمكان المتصل، وايضاً ما يترتب على مسلمة الهندسة اللااقليدية من نتائج؛ كالتفسير المتعلق بالزمكان والمجال الهندسي والثقالة والتسارع وانغلاق الكون وإفتراض عدد من الأبعاد الأخرى. ويمكن اجمال هذه المضامين والمترتبات كالتالي:
1- التغيرات الطارئة على الجسم عند السرعات الكبيرة.
2ـ الهندسة اللااقليدية والزمكان المتصل.
3ـ المجال الهندسي للزمكان والثقالة.
4ـ المجال الهندسي والأبعاد الاضافية.
5ـ المجال الهندسي والكون المغلق.
لنركز هنا على المسلمات العلمية ونترك البقية الى دراسات اخرى..

1ـ مبدأ الحركة النسبية

قد جرى التقليد المدرسي اسناد نظرية النسبية إلى مسلمتين علميتين ورد ذكرهما في النسبية الخاصة، إحداهما تسمى مبدأ النسبية، والاخرى ثبات سرعة الضوء. وسنتحدث عنهما على التوالي..
وينص مبدأ الحركة النسبية أنه وفقاً للميكانيكا التقليدية فإن القوانين الفيزيائية تجري ذاتها لدى جميع المشاهدين عندما تكون الحركة منتظمة وفي خط مستقيم ضمن نظام بالنسبة إلى نظام آخر، بمعنى ان المتحرك حركة منتظمة ومستقيمة في نظام لا تختلف القوانين بشأنه من ذلك الذي يكون ساكناً بالنسبة اليه. ويستنتج من هذه المسلمة أنه لا يمكن التمييز بين الشيء المتحرك حركة منتظمة مستقيمة بالنسبة إلى شيء ساكن عن هذا الأخير، فالحركة نسبية. والقوانين الفيزيائية الجارية حول الشيء الساكن والمتحرك ضمن تلك الشروط هي ذاتها لا تختلف. وهي المسلمة التي يعود اصلها إلى غاليلو. وقد أضاف أينشتاين إلى ذلك - في النسبية العامة - ما يتعلق بالتسارع ضمن التكافؤ بينه وبين الثقالة أو الجاذبية كما سنرى.
لكن بالاضافة إلى هذه المسلمة العلمية هناك مسلمة فلسفية اساسية، فالمسلمة السابقة تفترض شيئين أحدهما يتحرك بالنسبة إلى شيء آخر، لذلك فهي تفترض – فلسفياً – بأن من المحال ان تكون هناك حركة مطلقة لشيء من دون نسبته إلى اخر. بمعنى أنه لا يمكن ان تكون هناك حركة لشيء وحيد في الكون أو الوجود. فالحركة لشيء منفرد دون شيء آخر مستحيلة. وترتبط هذه المسلمة بما يعرف بالقصور الذاتي أو العطالة. وقد تأثر فيها أينشتاين بمبدأ ارنست ماخ.
فعلى الصعيد الفلسفي رأى أينشتاين بأنه لا معنى لحركة جسم وحيد في الكون، فحركة الجسم لا يمكن ان تفترض إلا بوجود جسم اخر. فليس هناك عطالة لجسم يدور حول نفسه في كون فارغ تماماً وفقاً للنسبية العامة. فالعطالة لا تحدث إلا بسبب الدوران بالنسبة إلى جميع الاجسام الأخرى في الكون. لذا قال: ‹‹وفقاً لنظريتي فإن القصور الذاتي هو مجرد تفاعل بين الكتل، وليس تأثيراً يشترك فيه المكان بذاته منفصلاً عن الكتلة الظاهرية. ويمكن ان نعبر عن ذلك كما يأتي: لو تركنا جميع الاشياء تختفي من الوجود فسوف يبقى الفضاء القصوري الجاليلي وفقاً لنظرية نيوتن، غير أنه وفقاً لتفسيري لن يبقى أي شيء››. وقد كان أينشتاين طوال (عام 1916) يناضل من اجل الاحتفاظ بنسبية العطالة ومبدأ ماخ. وهو بهذا القدر يلغي العطالة المطلقة من الفيزياء مثلما يلغي الحركة المطلقة، ويستبدل مكانهما النسبية فيما يعبر عنه بالتكافؤ بين الكتلة الثقالية والعطالية. وفي جميع الاحوال لا بد من وجود أكثر من جسم أو كتلة لتحصل بينهما الحركة النسبية.
فهذه المثنوية لدى النسبية هي من المسلمات الفلسفية الاساسية، واي طرح يلغيها يجعل من النسبية عاجزة عن التفسير الفيزيائي. بمعنى اننا بحسب النسبية لا يمكننا ان نفترض حركة جسم لحاله في الكون. فهذا الإفتراض بحسبها مستحيل، رغم أنه من حيث الإفتراض العقلي أو الخيالي ممكن للغاية، إذ ليس هناك شيء يمكنه منع تحرك جسم لحاله في هذا الكون، حتى ان بعض الفيزيائيين احتملوا ان لا يكون هناك شيء في الكون غير جسيم واحد يتحرك ذهاباً ومجيئاً بسرعة مذهلة هي التي توهمنا بهذه الكثرة الكاثرة في الكون ومن ضمنها الكائنات الواعية من امثالنا.
مع ذلك فإن إفتراض أينشتاين للمجال الزمكاني عوض الاثير يجعل من كون الحركة المطلقة يمكن ان تكون مقبولة بهذا الاعتبار، بمعنى ان الجسم حتى لو كان وحيداً فإنه يمكن ان تكون له حركة بالنسبة إلى هذا المجال وليس إلى شيء آخر من الاجسام.
2ـ مبدأ السرعة القصوى للضوء
تنص المسلمة الثانية في النسبية الخاصة بأن سرعة الضوء ثابتة في الفراغ، وهي المسلمة التي قامت عليها هذه النظرية، وجاءت على خلفية الفشل الذي لاح تجربة مايكلسون ومساعده مورلي (عام 1886). فقد كان الهدف من هذه التجربة هو تحديد سرعة الأرض في دورانها حول الشمس بالنسبة للأثير، لذا تتضمن اثبات الأثير فيما لو نجحت. وقد صُممت من خلال ارسال شعاعين ضوئيين متعامدين أحدهما باتجاه حركة الأرض والآخر متعامد عليها. ومن الناحية النظرية تنتظر التجربة ان يكون هناك اختلاف في السرعة لدى الاتجاهين، فسرعة الأرض تولّد تياراً معاكساً لحركتها مثلما يحصل في حركة السفينة التي تولّد تياراً معاكساً للحركة. وبحسب هذا الإفتراض فإن تيار الأثير يسير بعكس حركة الأرض فيؤخر من وصول الضوء، خلافاً للاتجاه الثاني المتعامد للضوء، مما يفضي إلى وجود الفارق بين السرعتين، كالذي يحصل في حالة شخصين يسبحان بسرعة واحدة؛ أحدهما يسبح في عكس اتجاه التيار المائي، والآخر يسبح بطريقة عرضية ويقطعان نفس المسافة، حيث سيتأخر وصول الأول مقارنة بالثاني. وكذا كان يُنتظر من التجربة ان تؤدي هذه النتيجة، لكنها لم تفض إلى شيء، فقد تبين بأن للضوء سلوكاً غريباً وهو أنه لا تتغير سرعته في الفراغ مهما كانت الظروف النسبية المتعلقة به. وقد صُدم العلماء من النتيجة وحاولوا بشتى السبل تأويلها لأجل الحفاظ على وجود الأثير كمسلمة أساسية لا غنى عنها.
فما تعنيه هذه التجربة هو ان الأثير ساكن وان الأرض ساكنة لا تدور هي الأخرى، إذ بهذا يمكن تفسير ثبات سرعة الضوء رغم اختلاف الجهات. بمعنى ان هذه التجربة لم تستطع اكتشاف حركة كل من الأثير والأرض أو اثباتهما. فكان لا بد من تقديم التأويلات المتعلقة بالأثير، وفي البداية كان من الصعب اعتبار الأثير غير موجود، فذلك يعني ان الأمواج الضوئية تنتشر من دون ان يكون لها وسيط حامل. إذا ما علة اتصاف الضوء بالسرعة الثابتة رغم اختلاف الجهات النسبية؟
لقد اضطر الفيزيائيون إلى تقديم تأويلات عديدة لتوضيح نتائج التجربة السلبية مع الحفاظ على فكرة الأثير، لكنها لم تكن مرضية.
وكان ابرز هذه التأويلات تفسير الفيزيائيين لورنتز وفيتزجيرالد استناداً إلى اعتبار المادة المتحركة تتقلص باتجاه حركتها، فكما سبق ان عرفنا بأنها تفترض التساوي بين تقلص الضوء وإبطاء الأثير له نتيجة فعله المعاكس للتيار، وهي صدفة لم ترضِ قناعة الفيزيائيين. كما لوحظ - فيما بعد - أنه عند تزايد السرعة فإن التأثير لا يتعلق بانكماش الأطوال فحسب، بل يلوح تباطؤ الزمن ايضاً، أو ان المسافات تكون أطول، فيفترض والحال هذه ان حركة الضوء باتجاه حركة الأرض هي أطول زمناً عند قياسها بالنسبة للأثير، وذلك فيما لو استندنا إلى مفاهيم لورنتز.
هكذا بدا على الفيزيائيين اليأس من قيام تفسير مقنع. وهنا قدّم أينشتاين الإفتراض الآخر الصعب والغريب في الوقت ذاته، فقد اضطر من جانب لاستبعاد مسلمة الأثير كلياً، فكما قال في بحث له (عام 1905): أنه إذا كان المرء لا يستطيع ان يكتشف ما إذا كان يتحرك أو لا يتحرك في الفضاء فإن فكرة الأثير تصبح حشواً لا حاجة اليه، كما أوضح بأن نماذج الأثير المختلفة أصبحت معقدة دون ان تخدم غرضاً مفيداً، ورأى ان من الأبسط تبني معادلات ماكسويل ولورنتز بدلاً من تبني نموذجاً شاذاً لا يساعد على تخيل بنية المكان. وعليه حلّ الفضاء محل الأثير، متوصلاً إلى ان الفضاء هو من يتمتع بخاصية نقل الأمواج الضوئية دون الأثير، ويعتبر الفضاء ذا بنية هندسية فحسب. كما افترض أينشتاين بأن سرعة الضوء في الفراغ ثابتة لا تتغير اطلاقاً، وسبب ثباتها يعود إلى تقلص المكان والزمان كالذي بينه (عام 1905)، عوضاً عن إفتراض فيتزجيرالد الذي رأى ان الحركة المتعلقة بالأثير هي علة تقلص الطول أو المكان وانكماشه.
ولا شك ان من الصعب تقبل الإفتراضين السابقين لولا الإضطرار الذي كشفت عنه تجربة مايكلسون ومورلي السلبية. فقد كان اعتبار ثبات الضوء ومن ثم الدخول في النسبية هو الإفتراض الآخر الذي لجأ اليه العلماء على مضض بعد المحاولات اليائسة التي اظهرتها التجارب حول حركة الضوء.
فمبدأ ثبات سرعة الضوء يتعارض مع فكرة الاثير الذي تؤثر حركته المفترضة في اسراع وابطاء كل ما يتموج فيه، وبالتالي فإما الاعتماد على الاثير مما يعني ان ثبات سرعة الضوء ليس صحيحاً، على الاقل فيما يتعلق بجمع السرعات، أو الاعتماد على ثبات سرعة الضوء مما يعني نفي ان يكون هناك اثير يؤثر على الحركات فيسرع منها أو يبطؤها، ومنها سرعة الضوء. ويبدو أنه وفقاً لهذه المسلمة كان الاسم الذي اطلقه أينشتاين على نظريته في بداية الأمر هو نظرية الثبات، وان ماكس بلانك هو من سمى نظريته بالنسبية (عام 1906)، ثم بعد ذلك اطلق أينشتاين عليها هذا العنوان الجديد (عام 1907) والذي تم له الصمود والبقاء.
ومن حيث التحليل يعد الإفتراض المتلعق بثبات سرعة الضوء غير معقول هو الآخر، إذ كيف يمكن لمصدر يسير بسرعة معينة وهو يحمل ضوءاً ومع ذلك فإن مجموع السرعتين ستكون هي ذاتها لا تتجاوز سرعة الضوء ذاته، أو عندما يتجه مصدران ضوئيان باتجاهين متعاكسين فإن السرعة النسبية لهما لا تكون أكثر من سرعة واحد منهما. فهل ان للضوء خاصية خفض السرعة عندما يواجه اطراً نسبية للجمع كما في المثالين السابقين؟ أو ان الزمن يتباطأ خلال هذه السرعة الهائلة بنوع من مؤامرة الطبيعة ومكيدتها كما يذكر عادة؟
لقد عزي السبب في السرعة الهائلة للضوء إلى ما تُقدر به كتلته السكونية، وهي الصفر. ولهذه العلة لا يطبق على الضوء قانون التسارع في ضرب الكتلة في السرعة، والا كان حاصل الضرب صفراً، إذ ليس للضوء أو الفوتون كتلة بالمعنى المألوف، لكن يُعرّف اندفاع الفوتون أو زخمه وتسارعه حسب معادلة أينشتاين الجسيمية بأنه يساوي حاصل قسمة طاقته على سرعته التي هي سرعة الضوء.
ومن الناحية الرمزية تكون المعادلة بالشكل التالي:
P = e/c
وحيث ان الطاقة (e) تساوي ثابت بلانك (h) مضروباً في تردده (f)، اي:
e = hf
لذا فبالتعويض يصبح الزخم أو التسارع (p) يساوي الناتج السابق مقسوماً على سرعة الضوء، أي كالتالي:
P = hf/c
لكن هذه المعادلة تبدي مفارقة للضوء، فتردد الضوء أو تواتره يختلف من صورة إلى أخرى، فمثلاً ان الاشعة فوق البنفسجية هي أعظم تواتراً من الاشعة الحمراء وما تحتها، وكل ذلك يؤثر على زخم الفوتون، بمعنى ان تسارعه يختلف بالنسبة لطبيعة ما عليه الشعاع، فهو في حالة الاشعة الأولى أعظم بالقياس إلى الثانية وفقاً للمعادلة السابقة، لكن ذلك يتنافى مع ما تقدره النسبية الخاصة من ثبات سرعة الضوء في الفراغ دون أي اعتبار لطبيعة ما عليه نوع الشعاع.
وما زالت هناك امور تتعلق بالضوء عصية على الفهم الفيزيائي، فهو من ابرز ألغاز هذا العلم، فمثلاً ما الذي يستثير الضوء ليكون بهذه السرعة الكبيرة إذا ما كانت كتلته السكونية صفراً كما يُفترض؟ فالكتلة الصفرية تعني في الوقت ذاته ان طاقته صفراً ايضاً وهو على خلاف حقيقته، فله طاقة لم تفسر لحد الآن قياساً بكتلته الصفرية. كذلك نتساءل: ما علة اتصاف الضوء بالسرعة الثابتة في الفراغ، مع ان طاقته تتفاوت من حالة إلى أخرى، فطاقة الضوء العادي ضعيفة للغاية عند مقارنتها بالطاقة المدمرة لاشعة جاما مثلاً؟ وفي الوسط المادي الكثيف تكون سرعة الاشعة الضوئية غير متساوية اعتماداً على الطول الموجي، فكلما قلّ هذا الطول كلما زاد عامل الانكسار في هذا الوسط وفقاً لعلاقة ماكسويل الرياضية، وهو ما يجعل الاطوال الكبيرة للضوء اسرع من تلك القصيرة.
ومن غرائب الضوء ايضاً ان الفوتونات تعطي تكّات صوتية ثابتة، فعندما نزيد من الاشعة فإن قوة التكّات تبقى ثابتة لكنها تصبح أكثر سرعة.
فهذه جملة من التساؤلات المتعلقة بألغاز الضوء دون جواب!
***
لقد واجه أينشتاين اعتراضات جمة منذ بداية طرحه لنظريته؛ لغرابتها وابتعادها عن المألوف، وكان بعضها يتعلق بتناقضاتها المرتبطة بمسلمة ثبات سرعة الضوء، فمن بين ما قيل بأن أينشتاين وضع النظرية النسبية العامة على نقيض ما تدعيه النسبية الخاصة التي سبقتها. فسرعة الضوء بحسب النسبية الخاصة ثابتة لا تتغير، في حين أنها بحسب النسبية العامة تتغير وفقاً للمجال الجاذبي. وقد تعرض أينشتاين إلى هذا النقد الذي ابداه الكثيرون، والذي يجعل من اشعة الضوء عند الاقتراب من الاجسام الضخمة تنحني، ولا يمكن ان يحدث ذلك ما لم تتغير سرعة انتشاره مع موقعه. لذا ابدى أينشتاين بأن ذلك قد يوهم بأن تكون النسبية الخاصة ومعها النسبية العامة باكملها قد تمرغت في التراب. واعتبر هذا وهماً لأن صحة النسبية الخاصة مشروطة باهمال اثر المجال الجاذبي، وبالتالي يمكن اعتماد النسبية الخاصة في الحالات التي يكون فيها المجال الجاذبي ضعيفاً جداً لا يعتد به كما هو الحال على ارضنا، خلافاً للنسبية العامة التي تتعامل مع الاجسام الضخمة من النجوم والمجرات وما اليها، فكلما كانت الكتل المادية كبيرة فذلك سيجعل من المجال المجاور لها اشد إنحناءاً، وبالعكس فيما لو كانت الكتل ضعيفة فذلك يقربها من التسطح. فالكون هو اشبه بالبطاطس ذات النتوءات المتباينة وفق تشبيه همبل، فمناطقه ذات منحنيات مختلفة اعتماداً على كثافة الكتل المادية. ومن ثم فالمجال الجاذبي يجعل المتصل الزماني المكاني في النسبية العامة غير اقليدي خلافاً لما يحصل لدى النسبية الخاصة من المتصل الاقليدي لضعف ذلك المجال، أو ان المتصل اللااقليدي ضعيف للغاية، فهو اقرب للمتصل الأخير، ولهذا تكون السرعة فيه ثابتة ما لم يعق ذلك عائق، خلافاً للمتصل غير الاقليدي لشدة المجال المذكور.
هكذا فإن ثبات سرعة الضوء ليست من المسلمات العلمية لدى أينشتاين، فهذه السرعة نسبية بما فيه الكفاية. انما مسلمته الاساسية تتحدد باقصى سرعة ممكنة في الكون، وهي ذاتها سرعة الضوء في الفراغ، بمعنى أنه لا يمكن ان تكون هناك سرعة تزيد عليها، أي حوالي (300000 كم في الثانية). وهو ما جعل الفيزيائيين لا يتقبلونها، فبعضهم افترض امكانية وجود جسيمات اسرع من الضوء كالتي اقترحها الفيزيائي الامريكي جيرالد واينبرغ وسماها (التاكيونات). ومثل ذلك افترض عدد من الفيزيائيين ان سرعة الضوء متغيرة، وهي في ظروف معينة تكون أعظم بكثير من سرعته المعهودة. وقبل سنوات قلائل لوحظ بأن لجسيمات النترينو سرعة تفوق سرعة الضوء بحوالي ستة كيلومترات في الثانية.
على ان نفي أينشتاين لاي سرعة تفوق سرعة الضوء جعله ينكر التأثير اللحظي، ومن ذلك تأثير الجاذبية، فهي لا يمكن ان تتخطى هذه السرعة، فضلاً عن ان يكون تأثيرها لحظياً. الأمر الذي لم يتقبله الفيزيائيون فيما بعد، وفقاً لتأويلات عديدة، وكان من بين المعترضين أصحاب ميكانيكا الكوانتم، إذ رأوا بأن هناك شواهد تثبت التأثير اللحظي للجسيمات بما يفوق سرعة الضوء كما سنعرف. كما هناك من اعتبر هذه المسلمة هي من خصائص النسبية الخاصة لا العامة. بمعنى أنها لا تصدق على الظروف المتعلقة بالجاذبية الضخمة، كالحال في بدء نشأة الكون والثقوب السوداء. ومن ذلك ما تبناه الفيزيائي ديفيز في كتابيه (اسطورة المادة) و(الجائزة الكونية الكبرى). فمن وجهة نظره أنه بحسب النسبية العامة يمكن تجاوز سرعة الضوء لضخامة الجاذبية وكون النسبية الخاصة هي حالة خاصة للنسبية العامة، وبالتالي اعتبر أنه يمكن للمجرات البعيدة ان تبتعد عنا بسرعة تفوق سرعة الضوء.
لكن وفقاً للنسبية العامة فإن الجاذبية الضخمة لا تعمل على اسراع الشيء بل على ابطائه، ومن ذلك ابطاء سرعة الضوء، وهو الأمر الذي يجعل الضوء غير قادر على الهروب عند بداية الإنفجار العظيم للكون أو تحت ظل الثقوب السوداء، فلولا الجاذبية الضخمة لكان من الممكن للضوء الهرب والسفر بسرعته المعهودة. كذلك يلاحظ بأن النسبية تفترض بأن الشيء عندما تزداد سرعته فإن كتلته وعطالته تزداد، ولكي تصل إلى سرعة الضوء فإنها تحتاج إلى طاقة غير متناهية، كما ان وصولها إلى سرعة الضوء يجعل من الكتلة غير متناهية ايضاً، وكل ذلك من المحالات التي لا تسمح به النظرية النسبية وفق شروطها المعروفة.
نعم ظهرت ادلة تبين بأن هناك قوى طاردة عظيمة تقوم باسراع توسع الكون، وقد يصل المدى إلى ما يتجاوز سرعة الضوء، ومن ذلك ما يفترض من وجود طاقة كامنة في نسيج الفضاء تسمى بالطاقة الداكنة أو المظلمة، والتي تشكل ما يقارب ثلاثة أرباع ما موجود في الكون، فطبقاً لبيانات مسبار ويلكينسون (WMAP) المقدمة لعام 2010، فإن تقدير ما تشغله هذه الطاقة المظلمة هي حوالي (72.8%)، في قبال ما تشغله المادة الباريونية المؤلفة من الجسيمات والذرات والتي تشغل (4.56%)، كما تشغل المادة المظلمة (22.7%).. وبالتالي أخذ الفيزيائيون يسلطون الضوء عليها ومنهم ديفيز المشار اليه سلفاً، رغم أنها تتعارض مع متبنيات نظرية النسبية.
3ـ الهندسة اللااقليدية
ليست هناك مسألة أهم من الهندسة اللااقليدية في نظرية أينشتاين، فهي المسلمة الاساسية التي بنى عليها تأويلاته الهامة في النسبية العامة. وكانت غير مألوفة تماماً، إذ ترى بأن الفضاء الكوني يمتاز بهندسة ريمان المحدبة، فيكون مغلقاً كالكرة أو البطاطس. بل يكون الإنحناء من جميع الاماكن والنقاط، ومن ذلك ان قطر الكرة الكونية يكون منحنياً غير مستقيم، وكذا سائر النقاط.
وبحسب هذه النظرية فإن الهندسة الفضائية والمجال الجاذبي هما شيء واحد بلا فرق. فكلاهما يعبران عن قانون فيزيائي موحد، مما يعني حلول الهندسة الفضائية عوض الكتل الثقالية، وهو ما سبب التباساً ولغطاً عند طرح الفكرة أول الامر. إذ اعتقد البعض ان جانباً هاماً من الفيزياء قد أُلغي وحلت محله الهندسة البحتة، أو الرياضيات الصرفة، وفكّر بعض آخر ان من الممكن ان تتحول الفيزياء في يوم ما إلى رياضيات، وانما كان كل هذا اللغط للخلط بين الهندسة الرياضية والهندسة الفيزيائية. رغم ان ما حدث مؤخراً هو مثل هذا الخلط، كالذي تبحث حوله نظرية الأوتار الفائقة تبعاً لأشكال (كالابي – ياو) الهندسية الصرفة.
والاهم من ذلك هو ان هذه النظرية واجهت اعتراضات عديدة بدعوى عدم معقوليتها وتجاوزها للحس المشترك العام، فكما قيل بأن من المستحيل أو الصعب تخيلها خلافاً للهندسة الاقليدية الواضحة. ويورد فيلسوف الوضعية المنطقية كارناب مناقشة بهذا الصدد حضرها في براغ مع فيزيائي الماني حول نظرية النسبية قريب (عام 1930)، وعلى ما يذكر كان هذا الفيزيائي: ‹‹مكتئباً إلى حد بعيد وابتدرني قائلاً: شيء فضيع انظر ماذا فعل أينشتاين بفيزيائنا الرائعة››.
وقد اعتبر ريشنباخ ان هذه المشكلة سايكولوجية تصب في الجانب النفسي. وعلى رأي كارناب ان تبني الهندسة اللااقليدية نابع من البساطة دون حاجة لإفتراضات أخرى تعلل انحراف الاشعة الضوئية وانكماش الاجسام الصلبة عندما تمر ضمن مجالات جاذبية كبيرة. وكان أينشتاين يستبعد - طبقاً لذلك - ان تكون هندسة الكون اقليدية، لتأثر قضبان القياس والساعات بالمجالات الجاذبية الضخمة. وبالتالي اعتبرت الهندسة اللااقليدية ابسط من الاقليدية على ارض الفيزياء وان كانت اعقد في سماء الرياضيات المحضة. وكما قال أينشتاين وإنفلد بأن الفيزياء الحديثة ابسط من القديمة، لذا تبدو اشق واعقد.

وقد ينفع هنا بعض التجارب التي اقيمت فيما يخص علم النفس الادراكي، ومنها علم النفس البصري، فهي تدعم المستجدات العلمية غير المألوفة، أو التي تخالف الحس المشترك. فقد كانت هناك تجارب تبدي ان بعض الناس المصابين ببعض الامراض البصرية يرون الاشياء بشكل مختلف، وهي مألوفة لديهم، ولو أنه تم تصحيح الرؤية لهم بنظارات مصححة لأصابهم شيء من الاختلال والتشوه في الرؤية قبل ان يتكيفوا على الوضع الجديد. ووصف (هيلمهولتز) بعض التجارب كالتي اجراها بنفسه واستخلص منها ان من الممكن ان يكون المكان المرئي ذا بنية غير اقليدية، فلو ان شخصاً تكيف جيداً على تجارب تتضمن سلوك الاجسام في عالم لا اقليدي لأمكنه تصور البنية اللااقليدية بنفس السهولة التي نتصور بها البنية الاقليدية.


مصدر المقالة: http://www.philosophyofsci.com/index.php?id=44