الاثنين، 17 نوفمبر 2014

العلم ومبدأ السببية

بسم الله الرحمن الرحيم

طرح جريء آخر للمفكر يحيى محمد حيث انتقد فيه مبدأ السببية ووضح المشاكل المحيطة به بشكل مختصر وسلس جداً

السببية ذلك الشيء الكامن فينا، والذي جعل هيوم يتألم، وجعل الملحد يسأل من خلق الله، وجعل المؤمن يقول أن الله خالق كل شيء..

السببية: المعضلة العقلية.

قراءة ممتعة



العلم ومبدأ السببية

يحيى محمد
لعلم الطبيعة مسلمات يعتمد عليها في كشف الحقائق الكونية. ويعد مبدأ السببية أهم مسلمات هذا العلم، حيث لولاه ما كان بالامكان الكشف عن ظواهر الطبيعة وقوانينها، وعلى رأي فيلسوف العلم كارل بوبر ان مبدأ السببية ميتافيزيقي، حاله في ذلك حال اضطراد قوانين الطبيعة وانتظامها. إذ يفترض المبدأ الأخير ان للطبيعة قوانيناً عامة منتظمة تمكّن العلماء من فهم الكون، رغم عدم وجود وسيلة للبرهنة عليها. فمثلاً كيف يمكن البرهنة على القوانين التي كانت تعمل منذ نشأة الكون؟ أو على مصداقية قانون الجاذبية العامة فيما يتعلق بالمجرات البعيدة؟ أو تلك التي لا تطالها يد الفحص والرؤية والاختبار؟ وهناك مسلمة أخرى غير قابلة للبرهنة ايضاً، وهي الاعتقاد ان بامكان العقل البشري ان يفسر ويحل ما يحمله النظام الكوني من غموض وابهام، كالذي اشار اليه هوروبن[1]. كما ان التسليم بوجود واقع موضوعي خارجي يقام عليه البحث هو ايضاً من المسلمات العلمية التي لا تخضع للبرهنة والدليل. ويعد العلماء مثل هذه الإفتراضات ضرورية لتكوين العلوم الطبيعية، ولولاها ما كان بالامكان انشاء أي علم. والبعض يصفها بأنها إفتراضات فلسفية.
ويقف مبدأ السببية على رأس قائمة هذه الافتراضات والمسلمات، فهو لا ينتمي إلى القضايا العلمية، وعلى رأي كارل بوبر ان ما يميزه عن القضايا العلمية، هو أنه لا يقبل التكذيب خلافاً للاخيرة، كما أنه يعد اساس هذه القضايا. لهذا فهو مبدأ ميتافيزيقي لا يسع العلم الاستغناء عنه.
ومن وجهة نظر برتراند رسل فإن المقصود بالسببية الذي يشكل الإفتراض القبلي للبحث العلمي هو ان نفس السبب يفضي إلى نفس النتيجة، كما ان اختلاف النتيجة أو الاثر يعني اختلاف السبب. فعلى رأيه أن هذا ما تسلّم به النظريات العلمية. فمثلاً ان تيارين من الطاقة المشعة عندما يسقطان على نفس النقطة من الجسم ويسببان احساسيين مختلفين من التصور؛ فإن ذلك يفسر اختلاف هذين التيارين من الطاقة. وبالتالي فهو يرأى أن فرضية وجود قوانين ثابتة للسببية تبدو غير قابلة للنقض وتعطي اساساً للدليل على وجود الاشياء الخارجية بإفتراض أنها هي التي تسبب احساساتنا الصورية لهذه الاشياء[2]. رغم أنه في محل آخر اعتبر بأن قانون السببية العامة هو نتاج تطبيق مبدأ الإستقراء، إذ يلاحظ ان الحوادث تقترن باسبابها باستمرار، ولا يوجد مبرر لتعميم هذا الأمر إلا بإفتراض هذا المبدأ سلفاً.
وعلى العموم يجري البحث في تفسير ظاهرة علمية من ظواهر الطبيعة؛ بتتبع اسبابها الفاعلة الخاصة والعوامل التي سببت وجود هذه الظاهرة، طبقاً لإفتراض مبدأ السببية. إذ يفترض في العلم وجود عوامل سببية تعمل على تشكيل الظاهرة، سواء تمكنا من الكشف عن هذه العوامل أم لم نتمكن. لهذا ليس هناك من العلماء من يفسر الظاهرة الجديدة – على الاقل فيما يخص الظواهر الماكروفيزيائية - بأنها تخلو من الاسباب باطلاق، أو ان وجودها نابع من العدم التام.
ويتصف مبدأ السببية بما نطلق عليه الضرورة الوجدانية، خلافاً للضرورة المنطقية، فلو كان هناك شاهد واحد يعارضها، لانتفت هذه الضرورة، لكن المشكلة هي كيف نثبت وجود الشاهد المعارض؟ فمثلاً كيف نأتي بشاهد يعارض مبدأ السببية العامة؟ فحتى لو اعتمدنا على وجهة النظر التجريبي، فاننا لا نجد ما يقطع بوجود شاهد معارض، فعدم وجدان السبب لا يدل على نفيه تماماً، فكيف والعقل يشهد بالميل الغريزي والوجداني على تلك الضرورة التي يتضمنها المبدأ؟! فمثلاً على الرغم من أن مبدأ عدم التحديد الكفيل بدراسة حركة الجسيمات العشوائية لا يتمكن من تحديد الاسباب التي تؤثر على تلك الظاهرة، فإنه - في الوقت نفسه - غير قادر على نفي مطلق الاسباب، خلاف ما ظنه ريشنباخ وغيره من الفلاسفة والعلماء من ان العالم (الجسيمي) لا يخضع إلى حكم تلك السببية. وقد كان هايزنبرغ صاحب المبدأ المشار اليه يعتقد بأن احكام السببية – مثل مبدأ الانسجام - لا تنطبق على العالم الجسيمي، وكان بذلك عرضة لنقد كارل بوبر.
وعموم مدرسة كوبنهاكن الكوانتية تذهب إلى هذا الاتجاه رغم ما تبديه من بعض المفارقات والتشويش. بل جرت التطورات الفيزيائية في طول المنحى الذي أكدت عليه هذه المدرسة؛ فأفضى الحال إلى القول بتعدد الاكوان المتوازية والنسخ التمثيلية للكون وما إلى ذلك مما يشبه الاساطير الدينية وغيرها. لكن ظهرت في القبال محاولات للعقلنة بإعادة الدور لمبدأ السببية وسائر الاعتبارات الوجدانية لتفسير مثل هذه الظواهر الخافية والبعيدة الغور.
وعلى العموم أنه حتى لو احتملنا خطأ مبدأ السببية، فإن غريزة العقل لا يسعها ان تتخلى عنه خلافاً لتعاملها مع غيره من المعارف، كقبولها جواز قابلية النار لعدم الاحراق، أو بقاء الحياة عند جز الرقبة، إلى غير ذلك مما لا يحظى بإلفتنا. فحتى لو لم تدرك أسباب الظاهرة كلياً، كان من السهل على تلك الغريزة أن تنسب الأمر إلى وجود أسباب خفية، كقضية ممكنة لا دليل على نفيها.
فارتباط الظواهر بعضها بالبعض الآخر عبر سلسلة علاقات السببية يفضي إلى الوصول لحالة لا يمكن معرفة سببها على نحو التفصيل، إذ يصبح السبب المؤثر راجعاً إلى عوامل خفية بعيدة الغور بحيث لا يمكن للعقل ان ينالها، ولو أنه تمكن من معرفة هذا السبب المؤثر الذي افترضناه خفياً، فسنضطر إلى إفتراض وجود سبب آخر أخفى منه هو الذي يقف وراء التأثير، وينتهي الحال عند مرحلة الغيب الذي لا يعرف العقل عنه شيئاً سوى أنه يؤثر على عالمنا الشهودي. فقد توصل العلم الفيزيائي اليوم إلى أعمق مراتب الاسباب، وهي تلك المتعلقة بما يطلق عليه الفراغ. وقد نتساءل: ما الذي يجعل الفراغ، او النسيج الفضائي، يقوم بدوره في النشوء والفناء على الدوام، بل وضمن توازن مدهش هو سبب النظام الكوني الذي نشهده؟
تشير الظنون العلمية اليوم إلى ان هذا الفراغ ليس بفارغ، فهو ممتلئ بالطاقة الضخمة (الداكنة) التي يُعزى لها هذا الدور الخلاق. وهنا أصبح التأثير السببي مرتبطاً بوجود هذه الطاقة التي تغطي ما يقارب ثلاثة أرباع الكون. لكن من أين أتت وقد كانت حادثة؟ فهذا ما لم يستطع العلم ان يجيب عليه – لحد الآن - رغم كثرة المحاولات التخمينية.
وبهذا يتضح ان مبدأ السببية يختلف عن غيره من المعارف المتعلقة بارتباطات الطبيعة. وقد يقال استناداً إلى هيوم ان الميل الغريزي ازاء مبدأ السببية ناتج عن الاحساسات الانطباعية المكثفة تبعاً لكون اطراد هذا المبدأ اعم من اطراد أي ظاهرة أخرى، الأمر الذي يجعل تأثيره النفسي اقوى من غيره، وهو ما يفسر ذلك الميل. وبالفعل لولا وجود بعض الظواهر التي لها عمومية مثلما هي للسببية، لكان من الصعب أن نجد ما يمكن ان ندفع به التبرير السابق. فظاهرة الحركة هي من الظواهر العامة التي لا تخلو منها أي علاقة طبيعية في الواقع، ومع هذا فإنها ليست مما تتضمن حكم الضرورة الوجداني. وهذا إن دل على شيء فانما يدل على ان الحكم الوجداني لذلك المبدأ لم يكن مكتسباً، بقدر ما له أصل غريزي وشهود عياني كالذي يقوله العرفاء.



[1] انظر:Horrobin, D. F. Science is God, Published in Great Britain in 1968 by MTP CO LTD, Aylesbury, p. 13.
[2] انظر:Russell, B. Human Knowledge, London, 1948, p. 34