الثلاثاء، 12 مايو 2015

التطور، بين الإطار الفكري والحقيقة العلمية

بسم الله الرحمن الرحيم

لا شكَّ أن من يتصفح مدونتي ويتابع أفكاري، سيجد أنني أقف ضد التطور بشكل واضح.

لقد أوضحت سابقاً أنني أعتبر التطور مجرد إطار فكري، 
ولكني اليوم سأحاول توضيح فكرتي أكثر بشكل أعمق..

قراءة ممتعة

لربما لا سعي لدى الإنسان يماثل سعيه للمعرفة، فالمعرفة هي من أهم الأمور التي توارثها البشر عبر العصور. برأيي الشخصي، المعرفة هي ما تميزنا.  شغف الإنسان بالمعرفة وفضوله الفطري (إن صح القول) دفعاه للنظر في كل شيء (حرفياً)، فمن الصعوبة أن تجد جانباً معرفياً تم إهماله كليّاً (لا أتكلم عن الإقصاء المتعمد).


وفي خضم هذا البحث، ولا نعلم كيف، ظهرت الأسئلة الوجودية، من أنا وما أنا ومن أين أتيت وإلى أين سأذهب. وفي الحقيقة لا أعلم إن كانت الأسئلة الوجودية تولد معنا أم أنها تتطور مع نمو المخ والعقل، ولكنها تبقى حاضرة لربما إلى يوم وفاة الإنسان. ولربما كان الموت أمراً ولغزاً محيّراً يحيط بعقل الإنسان فدفعه للبحث عن إجابات متتالية. ولكن، كل هذا البحث، قد يقود صاحبنا إلى وضع نظرية تتصل بالحياة بطريقة أكثر مادية. ولنأخذ على سبيل المثال، نظرية التطوّر. فنظرية التطوّر هي النظرية العلمية الأكثر عرضة للجدل على مر العصور وتجدد الأزمان، لما تحمله من نظرة عميقة للوجود. ولربما كان التطوّر هو الإجابة العقلية المادية لسؤال: لماذا أنا إنسان؟




يبدأ التطوّر بافتراض ميتافيزيقي (أي عقلي) مفاده: أن الطبيعة تفشل بالقضاء على حياة الكائنات الأكثر تكيّفاً، بينما تسحق الكائنات التي فشلت في التكيّف. فالبقاء في الطبيعة ليس للأقوى وليس للأجمل وليس للأذكى، بل البقاء للأكثر تكيّفاً. هذا هو الانتقاء الطبيعي، الذي بصيغته المتعارف عليها ينص على: الطبيعة تبقي على الأكثر تكيفاً. ثم تبدأ طبقة ثانية من الفرضيات، حيث كون الانتقاء يبقي على الأفراد الأفضل، فإن صفاتهم الجيدة تنتقل في نسل الأبناء، وهكذا تتراكم تلك الصفات مما يؤدي إلى نشوء فرد جديد كليّاً، بعد أجيال عديدة طبعاً من تراكم الصفات. هذه هي نظرية التطور في أبسط صورها. 

طبعاً، ولشخص في حالتي، يبدو الكلام أعلاه متماسكاً جداً، فالطبيعة قاسية: براكين، أعاصير، أمراض، زلازل، موجات حر، موجات برد، مجاعات، جفاف، حرائق! كل تلك الأمور تؤدي إلى قتل كل كائن ضعيف! وبهذا ينجو الأقوى! وفي صورة أقل دراميةَ فإن آلة الانتقاء الطبيعي تجعل أحد الكائنات بطفرة تشكّل منقاره بطريقة مفضلة ربما أو تعطيه مخلباً أكثر حدة أو عضلة أكثر قوة مما يعطيه ميزة أكثر في الغذاء أو التكاثر! وبالتالي فإن احتمالية بقاءه وتوريث صفاته تزداد.


ولكن ما خفي كان أعظم. فأول تساؤل فلسفي علمي يمكن طرحه ببساطة: هل يكفي الانتقاء الطبيعي مع الطفرات لخلق كل هذا التنوع؟ وهل الطفرات قادرة فعلاً على انتاج كائن جديد؟ لحد الآن يعوز هذا الأمر الدليل الحاسم فعلياً. 

وفي مستوى فلسفي معرفي أعمق: هل ما يفترضه داروين من انتقاء طبيعي هو ما يحدث أم ما نراه؟ بمعنى أبسط: هل هناك حقيقة خارجية للانتقاء الطبيعي؟ أم هو مجرد مفهوم عقلي آخر مثل الأعداد؟ هل الانتقاء الطبيعي هو ما نفهمه من الوجود ومشاكله؟ أم هو شيء آخر؟ وبالتالي تكون أهم مسلمة في التطوّر محط شك عقلي وفلسفي عند البعض. 


بالرغم من جميع نتاجات نظرية التطور والتوقعات التي تقدمها، والأسلوب الذي تحل فيه المشاكل، وبالرغم من النجاحات التي تحيط بها، كل هذا لا يجعلها علمية، ومع هذا فإن التطور عند كثير حقيقة لا يمكن الجدال فيها. فهو بالنسبة للكثير ظاهر في تدرج الكائنات عبر الأحافير (مع أن التدرج عندي ليس ضرورياً، فما نراه ليس بالضرورة هو ما حدث)، وبالتالي يكون التطور حدث ويحدث وسيحدث بكل بساطة. 

لكن المشكلة العلمية التي تواجه التطور هي القابلية للتكرار والتجريب، ولهذا تم تقسيم التطور إلى تطور ماكروي يحدث في زمن طويل، وتطور مايكروي يحدث في زمن قصير، والأخير هو الخاضع للتجربة ويتم مده وربطه بالتطور الكبير من خلال مبدأ تراكم الصفات والتغييرات. 


وهكذا يقبع التطور في صراع بين كونه حقيقة علمية وبين كونه طريقة للنظر إلى الحياة. فهو لا يملك دليلاً صريحاً سوى الأحافير في دعم التطور الكبير، وهذه فيها مشاكلها العميقة. وحتى يغطي المشكلة يراقب ما يحدث على المستوى الخلوي والبكتيري والفيروسي والتكيفات في الكائنات حتى يدعم تكهنه بتكوين كائن جديد. 



برأيي، تقف نظرية التطور على جبل من الاحافير التي تظهر بشكل يظهر تغيرا في الكائنات حتى نصل إلى الكائنات الحية الموجودة اليوم. الفرضية المتيافيزيقية في التطور: تلك الكائنات اقل تعقيداً ونحن أكثر تعقيداً.  وبهذا لا معنى لافتراض من هو أكثر أو أقل تعقيداً. انه مجرد خيال يفترضه الإنسان واختراع لمفهوم التطور. أنا لا أنكر وجود كائنات فيها تفاصيل اقل منا، ولكني لا افترض انها اقل تعقيداً منا، فالتعقيد خادع. 

مشكلة التطوّر إنه ثوب يرتديه عموم الأكاديميين، بل وينشرونه تحت مسمى العلم والحقيقة العلمية! ومشكلته الأخرى، أنه مدعوم بالهيئة العلمية السمينة ذات الصوت العميق والبدلات الأنيقة والنظارات ذات الإطار المذهّب. ولهذا عندما ترفضها يقف بوجهك أي شخص ويقول: ومن أنت كي تناقض كل هؤلاء؟! متناسياً أن آينشتاين هز أصول العلم وهو لم يحز الدكتوراه بل ولم يكن معروفاً أصلاً. 

ليس العلم بالشهادات، وليس اجتماع العلماء على قضية بالحجة المطلقة. إن الأكاديمي المتأثر بالتطور معذور، فهذا مبلغه من العلم، ولا ندعي علماً أكثر منه في تخصصه، ولكننا نتميز عنه بقضية بسيطة: التطور مجرد نظرية علمية تصدق بحدود وتكذب بحدود، وليست بحقيقة. ومن يراها حقيقة علمية فهو مساوي لأي مؤمن آخر. 



ودمتم سالمين.