الاثنين، 1 يونيو 2015

نمو الاطار الفكري وتغير الأفكار

بسم الله الرحمن الرحيم

اليوم أعرض لكم وجهة نظر شخصية بحتة، بعيدة قدر الإمكان عن التعصب والتحزّب.
إن تقبل أفكار الآخر، لا يعني الاقتناع بها، ورفضها لا يعني رفضه، هذا غاية ما أريد أن أصل إليه.
فنحن بشر، ولكل منا سعة، وكل يدرك عالمه على قدر سعته.

قراءة ممتعة




لا تتسم الأفكار والعقول البشرية بالجمود ذاتاً، فحتى من يُتهّم بالجمود، نراه يتحرك جاهداً للوصول إلى حالة فكرية سابقة ويلزم الجميع بها! فهو بهذا يكسر الجمود أيضاً في سعيه الدؤوب لتحويل الآخرين لعقيدته. وحتى لا نرحل بعيداً عن موضوعنا ولا نسهب في تفاصيل قد تفتح علينا المغلق من الأبواب، تعالوا نتجه نحو النقطة المهمة: نمو الإطار الفكري وتغيّر الأفكار. فكيف ينمو الإطار، وكيف تتغير الأفكار؟

للجواب على السؤال الأول، يجب أن نعرّف أولاً ما هو الإطار الفكري. إن الإطار الفكري هو مجموعة الحدود التي تحد فكر الشخص ويحكم بناءها على ما يدخل عقله، فهي أشبه بالحدود ونقاط التفتيش، تقوم على غربلة ما يدخل، وما يخرج أحياناً. وبالتالي يكون الإطار الفكري هو آلة الحكم التي لا تُحاكَم، بل هي التي تُحاكِم. 




وهكذا، يوماً بعد يوم تكتض الأفكار داخل تلك الحدود، فيصدف أن تأتي فكرة فتتحدى تلك الحدود ثم تدخل عنوة! وعندها يبدأ صراع الإطار الفكري، فإما ينمو ليتسع لتلك المتغيرات الجديدة، وإما يتحول لحالة الانغلاق فلا يتقبل دخول أي شيء جديد، فما عنده خير وأبقى، وهو الحصن الحصين والسد المنيع.

 ومن لحظة تقبل دخول تلك الأفكار الجديدة، يبدأ التفاعل المتسلسل، فنجد أصحاب الفكر الجامد يسعون إما لطرد الفكرة الجديدة تحت مسميات من مثل مخالفة القانون (أو العقيدة)، أو لتحويرها بحيث تتلائم وترتدي رداء المجتمع الفكري الذي هي فيه. وعلى النقيض، يدخل أصحاب الفكر المرن، فتبدأ حدودهم بالتوسع لتقبل وجود الفكرة الجديدة بين مجموعة الأفكار. إذن أين تغيّر الأفكار؟





إن تغيّر الأفكار لأمر ليس بالسهل، فمشكلة تغيّر الأفكار ترتبط بالعقول الناقدة والقلوب الواعية. ولربما أقرب طريقة لتمثيل المسألة هو هذا المثال: إذا سمحت بدخول فكرة جديدة مختلفة الأسس عن إطارك الفكري، إلى داخل إطارك الفكري، فهذا يعني أمراً من أمرين: إما أن إطارك الفكري غير قادر على التمييز، أو أن الأفكار السابقة لديها شروط مختلفة فدخلت عن طريقها. وهكذا تبدأ عملية مراجعة كاملة للفكر بالتدريج، فكرةً تلو أخرى. 

لكن سرعان ما يصطدم العقل بأفكار ذات طابع صلب وصلد، فلا يمكن التعامل معها إلا بكسرها، وهنا يبدأ تغيّر الفكر من الداخل، من عمق البنية المعرفية للإنسان. فتبدأ المرحلة القادمة: مرحلة الانتقاء والتبني. فالمفكّر سيبدأ بانتقاء الأفكار التي يراها أساسية للتلاؤم مع إطاره الفكري الجديد، فيتبني بعضها، ويطرح بعضها، ويعلّق الحكم في بعضها الآخر (في الحالة المثالية طبعاً، لأن البعض سيكون له رد فعل سلبي ضد بعض الأفكار الداخلية عنده، فلا يعلّق الحكم، بل يرفض فقط). 



ومن المهم أن نعلم أن الأطر الفكرية ليست حالة بسيطة (أي واحدة) بل هن حالة مركبة في عقل الإنسان. فالعقل البشري يحتوي كثيراً من الأطر التي تعيش في حالة سلام ووئام مع بعضها البعض وتتفاعل فيما بينها بهدوء، ولا يحدث تصادم بين الأطر إلا بعد دخول الأفكار الجديدة، ومراجعة قوانين قبول الأفكار الجديدة.

هذا هو الإطار العام لتغيّر الأفكار، ويمكن تطبيقه على مجموعة من الأطر الفكرية المتنوعة مثل:

  1. الإطار الفكري الديني المذهبي (الانتقال بين المذاهب مثلاً). 
  2. الإطار الفكري الديني العام (الرأي بالمنظومة الدينية مثلاً).
  3. الإطار الفكري العلمي (تقبل النظريات الجديدة ومشاكل النظريات القديمة مثلاً).
  4. الإطار الفكري الأخلاقي (تغيّر مفاهيم العيب والتابو والمقبول مثلاً).


وحتى نقرّب الصورة بشكل أوضح، لنأخذ نظرية التطور، ونطبقها على كلامنا. 

ينتمي التطوّر برأيي إلى الإطار الفكري العلمي، والذي يختص بوضع تصور عام للوجود بطريقة مادية بشكل رئيسي. ولكن الإطار العلمي بشكل عام، يشترك مع الإطار الفكري الديني من ناحية النظرة للوجود. ولكن دخول التطوّر سيؤدي إلى نمو فكرة مخالفة جذرياً لظاهر النظرة الدينية للإنسان كما هو معلوم، وهنا يبدأ الصراع. وفي إطلالة سريعة على جوانب النزاع بين الإطارين الفكريين، التطوري والديني، يمكن أن نلخص المشكلة من بعض جوانبها في المشكلات التالية:




ولا ننفي إمكانية أن يتسع النقاش لإدراج نقاط أخرى، ولكني آثرت ذكر هاتين النقطتين لما لهما من خصوصية وأهمية برأيي في إدراك أبعاد الصراع الفكري بين مؤيدي التطور وبين رافضيه. 

وطبعاً، وكنتيجة لدخول التطوّر بآلته المنطقية والمعرفية للعقل المؤمن باستقلال خلق الإنسان، حصل في البداية تمدد للإطار الفكري ليتسع للفكرة الجديدة، ثم بدأت عملية التقييم والمراجعة، مما أدى إلى دخول عاملي الانتقاء والتبني (مع التعديل) للوصول إلى حالة اتزان فكري، أو ما يعرف بالتطوّر الموجه. وربما الشكل التالي يوضح أبرز جوانب قضية التطوّر الموجه:




طبعاً لست بصدد مناقشة صحة هذه الأفكار من خطئها، ولا أن أناقش حكم من يقول بها، فتلك قضية أخرى أيضاً تتبع لنمو الإطار الفكري الديني، وجدلية النص مع الواقع. فقد يعترض معترض أن القرآن أتى مخاطباً العرب بلغتهم وأفهامهم، بينما يعترض آخر أن النص القرآني عربي مبين ولا يحتمل التأويل، ويكون هنا صراع الأطر الفكرية واضحاً. 


إذن، كيف يمكن النظر لقضية الصراع الفكري الحالي وفق التنظير أعلاه: يمكن النظر له أن كل شخص له طاقة وسعة وفهم وآلة منطقية، وأيضاً له مدخلاته التي يتقبل دخول الأفكار منها. وبهذا يكون الصراع الفكري بين الأطر الفكرية برأيي، حالة ثراء لا فقر، لأنك سترى الموضوع من شتى الجوانب وتقيّم كل رأي وفق إطارك أنت أيضاً، فيتعرض إطارك للنمو وتتعرض أفكارك للتغيير.

لربما، من خلال نقاشاتي الطويلة مع أنصار التطور والتطور الموجه، كانت اعتراضاتي وطعوناتي فلسفية فكرية أكثر مما هي علمية (بالرغم من وجود اعتراضات علمية كثيرة)، وهذا يعكس بكل وضوح مرونة الإطار الفكري وقدرته على انتاج الفكرة ونقيضها في نفس الموضوع، وكيف أن ثلاثة أشخاص يرون قضية واحدة، كل واحد فيهم يراها من زاويته. 

إنها دعوة للتأمل وتقبل الآخر، لنجعل أطرنا الفكرية مرنة تتسع للآخر وتسمح بتقبل وجهات النظر المختلفة. 

ودمتم سالمين.