الخميس، 18 يونيو 2015

قبول الاختلاف أم قبول الخطيئة؟

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الاختلافات الفكرية والأخلاقية والسلوكية
تعد من النواحي الطبيعية برأيي في الخليقة.

وبرأيي إن ساد نمط فكري واحد فهذه طامة كبرى ومصيبة يتعرض لها الفكر بل وينتكس على أثرها

وأحاول اليوم استعراض رأيي في قضية الاختلاف على أمل أن أمهد الطريق لنمو تصوري الخاص في اتجاهات مثمرة أكثر.



إن الإنسان لكائن عجيب. فهو ما أن يصل لنتيجة معيّنة، يبدأ ببحث عن أدلة تساعده في بناء اليقين الخاص به تجاه تلك النتيجة، بغض النظر عن مدى صدق تلك النتيجة وانطباقها مع الواقع وانسجامها مع المعطيات الموجودة، بل ومدى قدرتها على حل التناقضات والقضايا الشائكة فكرياً. 


ولكن يمكن النظر للموضوع بطريقة أسلس وأقرب للفهم عن طريق دراسة ظواهر معيّنة نعرفها جميعاً، ونعرف كيفية التصرف تجاهها، وبالنهاية نجد أن هناك من يتصرف عكس المفروض والمتوقع. وقد وقع اختياري على قضيتين: الصدق، وصوم رمضان. باعتبار الأولى بديهية بل يعتبرها البعض تتبع الأخلاق العالمية والتي تقوم عليها المجتمعات، والثانية تميز العقل المسلم وهي حالة تصف المسلم التقليدي. 


الصدق، ذلك الأمر الذي يحض عليه الجميع، ويعتبره أساس الأخلاق. فغياب الصدق والمصداقية يؤدي إلى غياب الثقة والشعور بالأمان بلا شك. لكن مع هذا يمارس نسبة كبيرة من الناس الكذب بدرجة أو بأخرى، يكذبون كي تسير الحياة بشكل سلس. وينتشر بين الناس مثل مشهور: الكذب الأبيض، وهو الكذب بهدف الخير. وطبعاً نعرف جميعاً الرد التقليدي: الكذب بلا ألوان، فالكذب كذب. وهناك حالة نسبية تقول: أنا لم أكذب ولكني أخفيت الحقيقة. فالشخص لم يدعي شيئاً غير موجود، لكنه اخفى احاطته بقضية معينة علماً.


كل هذا يقودني لقضية: توقع الصدق وتوقع الكذب. فأنا من باب حسن الظن، أفترض أن الشخص صادق معي، لكني من جهة أخرى أحافظ على حدود معينة. ولا يمكنني أن أقول أن جميع الناس صادقين حتى يثبت العكس، أو جميع الناس كاذبين حتى يثبت العكس. وبالتالي فأنا أسير في الحياة وفق احتمالين متساويين: الشخص يكذب لا يكذب. 


فماذا علي أن أتوقع؟


أولاً أدرس الموقف بشكل جيّد وبالتالي أضع احتمالات ترجح مقداري الصدق والكذب في الحوار. 


ثانياً: لا أبني موقفاً شخصياً يتبنى الكراهية أو العداء، بل أبني موقفاً يتبنى القبول، والقبول لا يعني الثقة، بل يعني تقبل وجود عيوب في هذا الشخص وأنني يمكنني أن أتعامل معه، ولكن درجة صدقه تحكم على درجة ثقتي به وبرأيه. 


ثالثاً وهو الأهم: فهم الخلفية الاجتماعية والنفسية يساعد في فكفكة معضلة الكذب وفهم أسبابها الباطنية.



وبالتالي هذا يقودني لخلاصة هامة: لا يوجد سبب يجعلني اقتنع من الوهلة الأولى أن الشخص الفلاني يوافقني وهو صادق معي 100%، أو ينكر موقفي وهو صادق معي 100%، فالحفاظ على درجة شك لاحقة تحمي من الوقوع في مغبة نقل معلومة غير دقيقة بسبب كذبة أو نقل غير أمين، أو التأثر بسلوك ذلك الشخص بطريقة قد تسبب لي ازعاج. ولهذا علينا تقبل وجود هذه الظاهرة والتعامل معها بالعقل والمنطق والقبول، لرفع الحاجة للكذب واختراع الحقائق. 


ننتقل للقضية الأخرى: صوم رمضان. لربما كان صوم رمضان من أكثر الأمور الشائكة التي يتم طرحها ونقاشها على المستويات الاجتماعية المختلفة. فالآراء فيه تتدرج من اعتباره واجب مقدس لا يجب التخلف عنه وإلزام الآخر به، إلى كون رمضان مظهر تعبدي خاص بالفرد يمارسه بحريته فلا يجب على أحد الصوم إلا راغباً. 



الآن، المشكلة تحدث عندما نجد مسلم لا يصوم، وتوخياً للدقة: شخص من عائلة مسلمة لا يوجد لديه التزام ديني تجاه رمضان خاصةً وشعائر الإسلام عامة. طبعاً يُبنى على هذا قضايا كثيرة، منها أنه شخص لا يحترم اعتقاد الأغلبية، أو أنه يتبع رغباته، أو أنه متكبر. قضايا كثيرة وشائكة برأيي. والسؤال الذي أطرحه على نفسي، لماذا يجب علي توقع أن المقابل، وحتى وإن بدا مسلماً، سيصوم مثلي؟ هل يوجد سبب حقيقي ملزم لهذا التوقع؟ هل صيام الفرد المسلم رمضان مشابه لغليان الماء عند حرارة 100 مئوية؟ حتى لو فرضت اغلاق المطاعم ومحلات الشرب، هل سيمنع هذا الإفطار؟ هل سيقلل عدد المفطرين؟ أم أن هذا سيجعل القضية تتحرك نحو الخفاء؟ 


لو قمنا بنقل المفهوم السابق المرتبط بالصدق، وربطه بقضية صوم رمضان، إلى ماذا سنصل؟ سنصل إلى أنني يمكنني قبول شخص لا يصوم وإن ادعى تمسكه بالإسلام. لا يعني قبوله الموافقة على سلوكه، بل اعتبار سلوكه جزء من طيف الاختلاف الطبيعي. 


كيف نتصرف مع الاختلاف؟ يبدأ التصرف مع المختلف بقبوله كشخص وتبيان له لاحقاً أن سلوكه غير مقبول بسبب القضية الكذائية. وطبعاً مستوى الصراحة هذا لا يكون إلا بعد تكوين علاقة عميقة نوعاً ما بين الطرفين. لا يعني قبول وجود الكذب أو الإفطار العلني، قبول السلوك الخاطئ، بل قبول وجود الأخطاء في العالم. وبالقبول نساعد في بناء المحبة وجذب الأشخاص إلى الطريق القويم ولو بعد حين. 


متى نرفض المختلف؟ يبدأ رفض المختلف، ليس بسبب سلوكه المختلف، بل بسبب فرضه سلوكه على الآخرين على طريقة النموذج المطلق (كما نرفض التشدد الديني بالضبط)، ففرض النمط السلوكي على أنه المطلق والقويم يجعل الاختلاف حالة سلبية نرفض بها الآخر ونقيمه على أساسها. نرفض المختلف لا باقصاءه، بل بعزله ثم محاولة اصلاحه بالتدريج. 


من هنا أحب الاستطراد وأقول: لا أرى أننا يمكننا الوصول للمدينة الفاضلة، ولا جبر الإنسان على الفضيلة، ولكننا يمكننا أن نجعله يختار الاختيارات الصحية والاكثر ملائمة لمجتمعه وتكوينه الفكري فيعيش بسلام مع نفسه وينتقل من مرحلة السكون إلى مرحلة الانتاج. 


بالحب والقبول وتمييز رفض السلوك عن رفض الشخص، سنصنع الاختلاف الصحي. وبهذا أختم قائلاً:


في مجتمعاتنا، نحن نعتاش على رفض المختلف، والمختلف يتحول إلى شخص سلبي بسبب رفضنا له، فإبن يسكر في البيت، وأهل البيت يرفضوه، يخلق هوة نفسية. لكن بالمحبة والمتابعة ورفض سلوكه، سيعود تدريجياً للطريق القويم، وقد يبدأ برفض جلب الكحول للمنزل (ربما!). 

اقبلوا المختلف، واخلصوا النصيحة، تساهموا في خلق مجتمع سليم نفسياً وعقلياً. 

ودمتم بود.