الجمعة، 2 أكتوبر 2015

الشك والتسليم

بسم الله الرحمن الرحيم

من الجميل أن تنمو الأفكار من خلال النقاش والتعرض لآراء الأصدقاء والمخالفين على حد سواء. 

كلام اليوم مبني على نقاش مع صديق حول رأيي في حالة الشك التي تصيب الإنسان وديمومة هذا الشك في السيطرة على الإطار الفكري

قراءة ممتعة



لا يمر يوم وإلا ونجد دعوات للشك بالأسس وكسر أسس التسليم لما نعرفه ودرجنا عليه، وما لا تقوله هكذا دعوات ضمناً أنها تدعو لحالة يقينية أخرى بديلة لما نشأنا عليها. فمثلاً، يوفر الفكر الإلحادي بديلاً عدمياً أو عبثياً للفكرة الأصلية القائلة بالغائية والقصد من وراء الوجود. ونجد هذه النظرة متأصلة في عدة مستويات سواء أكانت علمية أو أخلاقية. 

وليس غايتي اليوم أن أناقش تلك الأفكار، فاليوم أسعى لتكوين إطار فكري مرن يستوعب الحالات المختلفة ويفسرها قدر المستطاع. الإطار الذي أٌقدمه اليوم ألخصه لكم في الشكل التالي:



بعض التعريفات لتساعد على فهم الشكل:
  • الواقع: أقصد هنا بالواقع أي ما يتفاعل الإنسان معه من أحداث وأفكار وآراء.
  • التسليم: اعتبار الفكرة الفلانية أو المبدأ الفلاني صحيح مطلقاً.
  • البحث: هو الفترة التي تقع بين مرحلتين تسليميتين.
  • العناد: رفض التخلي عن التسليم.


والآن ننتقل للشرح وقد وقع اختياري على عدة أفكار لكونها مفيدة جداً في طرح القضية التي أريد إيصالها اليوم. كل فكرة تشرح واحدة من الأسس التي طرحتها في الصورة (التسليم، البحث، والعناد).

الشك وعلاقته بالتسليم:

إن الشك يعد من المسائل المهمة جداً في الفكر العلمي والفلسفي، وقد تعرض الفلاسفة المتشككون لحملات كثيرة لحملهم على اليقين. فعلى سبيل المثال تم وصف السفسطائيين بأنهم يشكون بأنهم يشكون، فالشك بالشك هو حالة دورية عندهم وهذا عند الفلاسفة جمع للنقيضين وهذا محال وممتنع بالذات. ولهذا جرت العادة على السخرية ممن يحمل الشك ويجعله مبدئاً له في التفكير.

أغلب الظن عندي أن العلاقات الجدلية لدى الإنسان تغيب عن ذهن بعض الفلاسفة المؤمنين بالمنطق القديم، وأكبر دليل مشكلة الشك التي يواجهونها. فمسألة الشك الكامل هي مسألة مناقضة لأسسهم بلا شك، ولكنها ليست بالضرورة مناقضة للواقع. إلا إن اعتبرنا كما يعتبرون أن المنطق هو الواقع والواقع هو المنطق لا أكثر ولا أقل.

لم يفهم اولئك الفلاسفة أن حالة التسليم التي لديهم لم تعد لدى السفسطائيين، فهم انتقلوا من حالة التسليم التي لدى الفلاسفة إلى حالة التسليم التي هم فيها حالياً. انتقلوا من سلطة المنطق المطلقة، إلى سلطة الواقع والذاتية المطلقة. ولهذا فإن التسليم لا علاقة حتمية له بالمنطق الذي يؤمن به الفلاسفة، بل له علاقات مع مستويات معرفية أخرى من المنطق والفهم سواء أأعجب الفلاسفة هذا أم لم يعجبهم. وطبعاً لو حاكمت الناس وفق إطاري الفكري، فمن السهل أن أجد التناقض لديهم دون أن أفهم قضيتهم. إن التسليم قضية مهمة جداً في الإيمان، فلا إيمان بلا تسليم. والإيمان هنا هو الإيمان بقضية معينة، مادية كانت أم غيبية. 


الانتقال بين المذاهب الفكرية والدينية: البحث

بالرغم من كون الربوبية، اللاأدرية، والإلحاد أوجه لعملة واحدة بنظر الفكر الديني، إلا إنها وفق ما أراه هنا عبارة عن ثلاث مستويات مختلفة من التسليم. فربما عند صدمة شخص ما بمشاكل الدين ينتقل إلى الفكرة الربوبية، فيجد الاستقرار فيها ويسلّم لها (التسليم). ولكن ولمشكلة ما تفقد الربوبية تلك القدرة على الحفاظ على حالة تسليمية عنده فينتقل لحالة الــبــحــث ليصل مثلاً إلى اللاأدرية والتي قد تفقد بريقها فينقاد للإلحاد. هذه حالة لا تحدث إلا عند الانتقال بين مستويات تسليمية متعددة.

وكمثال على المذاهب الدينية، التنقل بين التشيع والتسنن، بين مذاهب التسنن نفسها، وتغير الفكر الشيعي لنفس الفرد داخل المذهب الشيعي. فالمتنقل بين تلك الأفكار والمذاهب في الحقيقة هو في حالة بحث والبحث لا يكون إلا بترك الحالة المستقرة سابقاً (أي التسليم السابق) والانطلاق في رحلة تقلّب بين المفاهيم للوصول لحالة استقرار جديدة (التسليم لمفهوم جديد). وكما أسلفنا سابقاً قد يكون المفهوم الجديد باختصار: أن الشك المستمر هو الشيء الوحيد الثابت الذي نسلّم له. فالشك بالشك ضروري للمحافظة على التسليم الذي وصلنا له. 


تحجّر حالة التسليم (الدوجماطيقا): العناد

برأيي فإن هذا أسوأ ما يصيب أي شخص يفكر، فهو يعتبر نفسه وصل إلى نهاية الطريق وهذا ما نراه لدى المتعصبين المذهبيين والعدميين والعبثيين. سبب هذا الأمر أن الشخص قد وصل إلى فكرة مفادها: أنا لدي الآلية التي تجيب عن كل شيء. الآن هناك برأيي مستويين للعناد: المستوى السطحي والمستوى العميق. المستوى السطحي هو المستوى الرافض لأدنى تغيير وغير مستعد لتقبل فكرة قد رفضها أو حتى إعادة البحث فيها. بينما المستوى العميق، فهو المستوى الرافض للتغيير ولكن ليس بشكل كلي، فهو يفتح المجال للشك والسماح بإمكانية تغيير الأسس ولكن بشرط الحصول على نظرة جديدة وفهم جديد للمسائل التي مر عليها، بحيث تعطي هذه النظرة الدفعة الكافية لهز حالة التسليم التي هو فيها، وإلا لكان العناد هو مصير الفكرة الجديدة. 


كلمة ختامية:

ليس المقصود من كلامي هنا إعطاء الحق لأي شخص ولكن القصد هو تكوين فهم أعمق لظاهرة الاختلاف الفكري والفلسفي بين المستويات المعرفية المختلفة. بالاضافة إلى تكوين صورة أشمل تفهم الواقع أكثر وتتمتع بالمرونة الكافية لتقبل الاختلاف بطريقة صحية. فالنقد الصحي يجب أن يكون على صورة تقديم انتقاد صحيح للأسس التي أقام عليها المخالف فكره دون المساس بشخصه قدر الإمكان.


دمتم بود.