الجمعة، 4 مارس 2016

تجديد الدين، أم تجديد آليات فهم الدين؟

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا المقال فيه نسبة زندقة عالية، ولهذا لا تقرأه وأنت غاضب أو لديك مشكلة. حاول أن تقرأه وأنت في حالة استرخاء!

قراءة ممتعة


كم تجذب عيناي المرهقتان دعوات تجديد الدين، ودعوات التحذير من اؤلئك المجددين الجهلة! ولا أعلم هل أبكي أم أفتح قلبي؟! وقبل أن نبدأ، لابد منا من وقفة بسيطة حول أسباب الدعوات للتجديد (برأيي). فدعوات التجديد ليست وليدة السنوات الأخيرة، بل أقول أنها قديمة نوعاً ما، وتقف بي الذاكرة في حدود منتصف القرن العشرين، وما أظنه السبب خلف وجود دعوات التجديد في تلك الفترة، ما أسميه: العولمة والانفتاح على ثقافة الآخر. فقد دخل الراديو ودخلت الكتب واطلع الشرق على الغرب والشمال على الجنوب  فكان لزاماً أن يبدأ التلاقح الثقافي.

لقد عاش العرب بعد سقوط الأندلس وخروج الامبراطورية الإسلامية من أوروبا، وانقسامها في شمال افريقيا وجزيرة العرب، عاشوا في عزلة فكرية إن صح القول. فالامبراطورية العثمانية قامت بتدجين النظام الفقهي وتحويله لآلة فكرية بيد السلطة، وعلى غرار هذا قامت الدولة الصفوية بتدجين النظام الفقهي هي الأخرى وخلق المعتقد العام للدولة الصفوية. وفي نقطة استطرادية، فنحن لا نذم تلك الدول وبالتأكيد نحن لا نمدحها، فهي قد فعلت ما عليها كي تحافظ على المكاسب وتواجه الصراعات المختلفة. ولكن هل هذا الأمر هو السبب الوحيد خلف الدعوات الإصلاحية؟

لقد شهد القرن العشرين ومن قبله القرنين التاسع عشر والثامن عشر ظهور الحركات الدينية المتشددة تحت مختلف المسميات. وللأسف فإن النصيب الأكبر من تلك الحركات انضوى تحت راية الفكر السلفي، فأمست اليوم كلمة "سلفي" مساوية ضمنياً للانغلاق الفكري والإرهاب بجميع أشكاله. كلمة "سلفي" الآن تعتبر جريمة لو وصمت بها أحداً والجميع يريد أن يتبرأ من هذا الدنس الفكري! 

وعندي، فإن التاريخ لا يقف فيه الإرهاب على طائفة أو مجموعة بحد ذاتها، ولكن هذا لا يمنع أن تستأثر طائفة بالضوء، ولا يمنع هذا أن تقوم تلك الطائفة بتعليم باقي الطوائف ذلك الأسلوب! فالخير يعم كما هو معلوم، والاستيعاب يتم على قدر الاستعداد لتنمية تلك الملكات الفكرية!

وفي الحقيقة، وكباحث عن الحقيقة (وأعلم مدى ابتذال هذه الكلمة في يومنا هذا، ولكن حسبي الله على من جعلها مبتذلة من المراهقين الفكريين)، فأنا لا أبحث في العناوين، ولا أبحث في الأسماء، بل أبحث في الأدوات. وكي تفهمون قصدي سأطرح لكم مثالاً يشرح قصدي كي يساعد على تقريب الصورة.

الحرب العراقية الإيرانية والتي استمرت 8 سنوات. تلك الحرب الغبية التي مات فيها بشر كثير لا يحصيهم حاصي واستهلكت اعمار الشعبين. تم استغلال الأطر الفكرية لدى المجتمع في هذه الحرب بكل وضوح. فالقادة الإيرانيون تاجروا بإسم الشهادة والجهاد ومباركة الموت في سبيل الله، وبالمقابل قام العراقيون بنفس الشيء، بل وأضافوا أبعاداً تاريخية تحت مسمى القادسية الثانية والمجوس. 

إن هذا بنظري استغلال بشع للتاريخ والأدوات الفكرية والنفسية، تخيلوا أن الصورة الحالية المزروعة في بعض العقول أن الجيل الإيراني اليوم لا يزال يريد أن ينتقم من الجيل العربي الحالي! يا مجتمعنا العربي، تلك دولة بأجندة خارجية وأهداف سياسية، رأت عندك ثغرة فسارت إليها وأنت استجبت. والكارثة إن استغلال تلك الدوافع التاريخية لا زال سارياً والناس تصدقه بكل قوة. 

وكل هذا الاستغلال للدين أتى من باب تم انشاءه في وقت لم يكن فيه أي باب قبله، وقد كان قد وضع لحماية الدين. والآن بدأ هذا الباب بقتل الدين. إنه باب التعبد بالنص. فما ورد به نص لا يجوز الاجتهاد بقباله. فما أقبحك من باب قتلت العقل وأنهيت به القدرة على الاجتهاد أصلاً.

نعود، فتلك العقول التي تعبدت بالنصوص، بدأت بتمجيد الواهي والضعيف والمتفرد والغريب والعجيب مما جاء في تراثنا المترامي. فأمسى حديثاً ضعيفاً أقوى من رأي الرجال، وأمست رواية غريبة تسود على العقل بما قال. ولا أتكلم عن أمور قد يتقبلها العقل بسهولة فيسوغ الاختلاف بها، بل أتكلم بأمور عجيبة تتصل حتى بمأكل الناس. فالفاكهة الفلانية كذا وكذا والفاكهة العلانية كذا وكذا. ويمتد الأمر ليصل إلى قتل الناس بإسم النصوص ومخالفتها كما هو معلوم بشكل جلي. 

إن كتب فرق المسلمين على اختلافها لم تخلو من دماء البشر، تحت أي مسمى، وكلها تستلهم النصوص في سبيل شرعنة عملية القتل. وإلا فكيف نبرر بروز التشدد الحالي واستشهاده بالتراث؟ 

الحل، ما هو الحل؟ سارعنا بالحل فقد أعيتنا المصيبة. الحل بسيط، ولكن نتائجه كبيرة ويحتاج إلى شجاعة لتطبيقه: كسر الفهم القديم للقرآن والسنة.

ما هي خطواته:

1- اعتبار إن النص القرآني نص ورد في فترة زمنية محدودة وضيقة فكانت الأحكام الواردة فيه صالحة لتلك الفترة وضمن قيم ومفاهيم تلك الفترة. وبالتالي لا يمكن تعميم تلك الأحكام وتصديرها لزمننا الحالي دون توقع حدوث تصادمات (كما يحدث مع الإرث والحدود) مع القيم الحالية والعقل المجتمع الحالي. بل أكبر دليل على محدودية النص مكاناً أحكام الصوم وارتباطها بقضية الشروق والغروب، مما يدل أن حكم الصوم أعمق من مجرد شروق وغروب وأن تلك مجرد اداة لتعريف مدة الصيام لا أكثر.  

2- صلاحية القرآن المطلقة، هي صلاحية غايات الآيات. فالفائدة المرجوة من تطبيق الأحكام وتنظيم الحياة البشرية لن تتغير بتغير ظروف البشر، فالبشر سيسعون للحق والخير والجمال طالما هم أحياء وتلك غايات البشر. وبالتالي فالقرآن صالح تعبديا لكل زمان ومكان. المقصد هو الأولى بالاهتمام.

3- السنة المحكية هي وسيلة غير علمية ولا أمينة لنقل ما حدث بالضبط، ولكنها وسيلة مقبولة لنقل حيثيات فهم الناس لما جرى، وكيف سمع الناس النبي وكيف طبقوا الأحكام. يمكن الاستئناس فيها لاستخراج آليات تطبيق الأحكام لدراسة المقصد والنتائج التي ترتبت على تطبيق الحكم (مثل حالة تعطيل حد السرقة في زمن عمر)، وإلا فالتمسك بها كما هي ضياع ما بعده ضياع. 

4- هل القرآن يكفي؟ الجواب لا. لماذا؟ يا عزيزي القرآن هو البداية ومنه ننطلق، ولكنه ليس النهاية. وأنا لا أتكلم هنا اعجازياً، بل أتكلم علميا وتشريعياً، فهل يوجد في القرآن حكم الاستنساخ البشري مثلاً؟ أم احتاج الأمر لكتب ورسائل لدراسة الأمر؟ تأملوا يرحمكم الله. بل أقول: لو القرآن مكتفي بذاته، لقام الله بإنزاله من فوق السماء بنسخ عديدة فاطلع عليه البشر واهتدوا من تلقاء أنفسهم دون حاجة لا لرسول ولا لحرب ولا لضحايا. نعم، فالرسول حارب لأجل تنزيل هذا القرآن، حتى قال أن رزقه تحت ظل رمحه!

5- ماذا نفعل؟ الجواب بسيط: لا شيء. صلّ كما تعلمت وصم كما تعلمت، ولكن عندما تأتي لإصدار حكم فقهي أو شرعي وفق الآليات القديمة ليكن عندك يقين أنك مخطئ لأنك تجتر نفس الآلية في نفس الوحل الفكري. 


أمثلة على نتائج النمط الفكري الذي اتبعه:

1- الشيعة والسنة نتائج للآليات الفكرية والظروف السياسية.
2- الحجاب القصد منه الحشمة وليس كما يظن، فدراسة النصوص القرآنية تشير وبوضوح إلى أن ثقافة العرب كانت تغطية الرأس وجاء الحجاب لتغطية الرقبة والصدر (منطقة النحر).
3- الميراث أتى كبداية لتوزيع الأموال بطريقة عادلة وفق المنظور آنذاك ولا يكفي التوقف عند تلك النظرة. الدليل: هناك مشاكل العول والاختلاف بالرأي في قضية أن ترث البنت كل شيء أم ترث النصف بين المذاهب. 
4- الحدود أتت كعقوبات يتقبلها المجتمع والذوق آنذاك ولها غاية تأديبية. الغاية التأديبية الآن انتفت، فنحن لا نحل القضية بالقتل والجلد وتكوين المعاقين. لا ننسى أن المجتمعات السابقة كانت تعاني من عوز وفقر فكان السارق إن سرق، لابد أن يكون معتدي. ولاحظوا قصة حد الحرابة وكيف تم علاج مسألتي السرقة والقتل. القراءة الواقعية للنصوص تحررنا من القيود المعتادة.


تلك أمثلة بسيطة، أعلم أن الكثير سيرفضها ولن يفهمها، ولكني هكذا باختصار أكون قد أرضيت ضميري المثقل تجاه هذه الأمة المسكينة. 

أدعوا أن يرحمنا الله ويهدينا لسواء السبيل.

والحمد لله رب العالمين.